وهذا الحديث أحسن ما قيل في تأويله: إنه الذي قد غلب عليه الشعر، وامتلأ صدره منه دون علم سواه، ولا شيء من الذكر ممن يخوض به في الباطل ويسلك به مسالك لا تحمد له، كالمكثر من اللغط والهذر والغيبة وقبيح القول، ومن كان الغالب عليه الشعر؛ لزمته هذه الأوصاف المذمومة الدنية؛ لحكم العادة الأدبية، وهذا المعنى هو الذي أشار إليه البخاري في صحيحه لما بوَّب على هذا الحديث (باب ما يكره أن يكون الغالب على الإنسان الشعر)، وقد قيل في تأويله: إن المراد بذلك الشعر الذي هجي به النبي -صلى الله عليه وسلم- أو غيره، وليس هذا بشيء؛ لأن القليل من هجو النبي -صلى الله عليه وسلم- وكثيره سواء في أنه كفر ومذموم، وكذلك هجو غير النبي -صلى الله عليه وسلم- من المسلمين محرم قليله وكثيره، وحينئذٍ لا يكون لتخصيص الذم بالكثير معنى.
معنى الحديث واضح، يعني قوله:((لأن يمتلئ)) فإذا امتلئ الجوف من الشعر ما كان فيه محل لغيره، لا من القرآن ولا من السنة ولا من ما يحتاج إليه من العلم، إذا امتلأ ما استوعب غيره، فالاستغناء بالشعر عن الكتاب والسنة لا شك أنه ذم، يذم ذم شديد، وكونه يمتلئ قيح خير له من أن يمتلئ شعر، شعر يستوعب قلبه بحيث لا يكون للكتاب والسنة فيه مجال، أما من في جوفه الكتاب والسنة وفيه أيضاً شيء من الشعر، وفيه العلوم وما يحتاج إليه من صنوف العلم فهذا لا يذم، بل يمدح؛ لأن من الشعر حكمة، وكثير من العلوم نظمت فصارت شعراً، ونظم العلوم حقيقةً سنةً عند أهل العلم يسهلون بها حفظ العلم وثباته بالشعر؛ لأن الشعر أثبت من النظم، فلا شك أن مثل هذا النوع محمود، فنظم في جميع العلوم حتى في مفردات القرآن وغريبه وغريب الحديث، وفي التفسير أيضاً، وفي شروح الحديث، ونظمت المتون العلمية، كل هذا شيء جديد.
لكن بعضهم نظم الحديث فبلوغ المرام نظمه الصنعاني، ونظمه غيره، وعندي أن مثل هذا لا يليق، فالنبي -عليه الصلاة والسلام- نفى عنه الرب -جل وعلا- الشعر {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنبَغِي لَهُ} [(٦٩) سورة يس] تحول كلامه من نثر إلى شعر؟ يعني تحوله إلى ما نفاه الله -جل وعلا- عنه لا شك أن هذا أقل أحواله الكراهة الشديدة.