المولى، فهم يعلمون أنه -سبحانه وتعالى- مستطيعٌ ذلك، وإنما يتوجهون بالخطاب لعيسى -عليه السلام- بأنه يسأل ربه إنزال هذه المائدة، وفي ذلك إشارة إلى تكريم عيسى وتعظيمه حيث استجاب الله لدعائه.
وبذلك تكون كل قراءة قد أفادت معنًى من المعاني.
هناك بعض الأساليب البلاغية التي وردت في القراءات، من أشهر هذه الأساليب ما يتعلق بظاهرة الالتفات، يعني: تنوع الضمير من الغيبة بالخطاب، أو من التكلم إلى الغيبة، وغير ذلك من ألوان الالتفات الستة المعروفة عند البلاغيين. فعندنا نماذج متنوعة في هذا اللون، كقوله تعالى:{فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ}(النساء: ١٧٣) قرئت: {فَيُوَفِّيهِمْ} وقرئت: "فنوفيهم". و"يوفيهم" بضمير الغيبة و"نوفيهم" بضمير المتكلم، فقراءة النون جاءت موافقةً للسياق التعبيري، فَقَبْلها قوله -سبحانه وتعالى-: {فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا}(آل عمران: ٥٦).
وقراءة:{فَيُوَفِّيهِمْ} جاءت على الالتفات من التكلم إلى الغيبة؛ ليخالف بين العقاب والثواب، ولم يكن العكس، فإن الله -سبحانه وتعالى- ذكر في الآية السابقة عذابه، وذكر في هذه الآية ثوابه لأهل الإيمان والعمل الصالح، فالحديث عن المؤمنين بـ"النون"؛ لأن السياقَ لما كان مشيرًا إلى شدة تخويف وتهديد الكفار عذابًا شديدًا في الدنيا والآخرة، فإنه ناسبَ أن يكون التنوع بين الخطاب بأهل الإيمان، وكِلَا المعنيين من المعاني أو من اللطائف التي تَظهر في تنوع أو في استخدام الالتفات في الضمير.
وكذلك في قول الله -سبحانه وتعالى-: {كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ * وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ}(آل عمران: ٤٧، ٤٨) قرئ: "ونُعلمه الكتابَ والحكمةَ".