الجرجاني أسهب في كتابه في بيان هذه القضية على مدار الكتاب؛ لأن مسألة تتعلق بنظريته في الإعجاز، أن إعجاز القرآن راجع إلى نظمه.
مجمل هذه القضية بإيجاز: أن للعلماء فيها ثلاثةَ أقوال:
- القول الأول: أن اللفظ أعلى من المعنى، وأعظم قيمةً، وأعز مطلبًا، وكان الجاحظ أول مَن نادَى به في نقد الأدب العربي، وذكر بيتين استشهد بهما على أهمية المعنى، وأن المعنى لا بد أن يكون شريفًا، وأن يتناول معنًى أخلاقيًّا، وما إلى ذلك، من استحسان أبي عمر الشيباني لهذين البيتين:
لا تحسبن الموت موت البِلى ... وإنما الموت سؤال الرجال
كلاهما موتٌ ولكن ذا ... أشد من ذاك على كل حال
فعقَّب الجاحظ بقوله: وذهب الشيخ إلى استحسان المعاني، والمعاني مطروحة في الطريق يعرفها العجمي والعربي، والقروي والبدوي، وإنما الشأن في إقامة الوزن، وتخير اللفظ، وسهولة المخرج، وصِحة الطبع، وكثرة الماء، وجودة السبك، وإنما الشعر صناعة، وضربٌ من التصوير. فهذا الفريق الذي يذهب صراحةً إلى أن اللفظ أعلى من المعنى في قضية النظم.
وكذلك أبو هلال العسكري فليس الشأن في إيراد المعاني؛ لأن المعاني يعرفها العربي والعجمي، والقروي والبدوي، وإنما هو في جودة اللفظ وصفائه، وحسنه وبهائه، ونزاهته ونقائه، وكثرة طلاوته ومائه، وليس يُطلَب من المعنى إلا أن يكون صوابًا، ولا يقنع من اللفظ بذلك، ولهذا تأنق الكاتب في الرسالة، والخطيب في الخُطبة، والشاعر في القصيدة، يبالغون في تجويدها، ويغلون في ترتيبها؛ ليدلوا على براعتهم، وحذقهم بصناعتهم، ولو كان الأمر في المعاني لطرحوا أكثرَ ذلك، فربحوا كدًّا كثيرًا، وأسقطوا عن أنفسهم تعبًا طويلًا.