الذي اطلع على أسرارها، وفتش عن دفائنها، ولا تجد ذلك في كل كلام؛ فإنه من أشكل ضروب علم البيان، وأدقها فهمًا، وأغمضها طريقًا". وذلك يوضح أن النظر في استخدام الأفعال إنّما ذلك يكون عن حسن فهم وتذوق لكلام الله سبحانه وتعالى.
ينتقل بعد ذلك بالكلام عن الإخبار عن الفعل الماضي بالمستقبل، وعن المستقبل بالماضي؛ يقول: "اعلم أن الفعل المستقبل إذا أتي به في حالة الإخبار عن وجود الفعل، كان ذلك أبلغ من الإخبار بالفعل الماضي، وذلك لأنّ الفِعْل المستقبل يوضح الحال التي يقع فيها، ويستحضر تلك الصورة حتى كأنّ السّامِعَ يُشاهدها، وليس كذلك الفعل الماضي، ورُبّما أُدخل في هذا الموضع ما ليس منه جهلًا بمكانه، فعنده ليس كل فعل مستقبل يعطف على ماض بجار هذا المجري".
يعني: يريد أن ينبهك إلى أن استخدام الماضي والمستقبل كل منهما محل الآخر، هذا يكون لغرض يريده المتحدث هذا الغرض أحد غرضين: إما أن يكون غرضًا بلاغيًّا أو غرضًا غير بلاغي؛ فمن الأغراض البلاغية التي تُحتاج في هذا الجانب هو إخبار عن ماض بمستقبل لإبراز صورة معينة يريدها المتحدث، من ذلك قوله سبحانه وتعالى:{وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَّيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا كَذَلِكَ النُّشُور}(فاطر: ٩).
فإنما قال سبحانه وتعالى: "فتثير" مستقبلًا وما قبله وما بعده ماض "أرسل" "فسقنا" أفعال ماضية وتثير فعلًا مضارعًا، لذلك المعنى المُراد وهو حكاية الحال التي يقع فيها إثارة الريح السحاب، واستحضار تلك الصورة البديعة الدالة على القدرة الباهرة.