للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

٤ - ومنها الطرق النظرية مثل قولهم: كل موجودين فإما أن يكون أحدهما مباينا للآخر أو مداخلا له، وإذا ثبت أنه ليس مداخلا له فلابد أن يكون مباينا له، وهكذا.٥ - ومنها أنه إذا ثبت أن العالم كرة، وأن الله لابد أن يكون مباينا لخلقه، والعلو المطلق فوق الكرة، فيلزم أن يكون في العلو (١).وكثيرا ما يربط شيخ الإسلام مناقشاته بأمور عملية واقعية، ولذلك فهو يورد قصة أبي المعالي الجويني مع أبي جعفر الهمذاني لما اعترض عليه وهو يقرر نفي العلو، فقال له الهمذاني: دعنا مما تقول، ما هذه الضرورة التي نجدها في قلوبنا، ما قال عارف قط يا الله إلا وجد من قلبه معنى يطلب العلو، لا يلتفت بمنة ولا يسرة، فكيف ندفع هذه الضرورة من قلوبنا. فصرخ أبو المعالي، ووضع يده على رأسه وقال: حيرني الهمذاني، أو كما قال، ونزل (٢).ومن عجيب ما جرى لشيخ الإسلام ابن تيمية نفسه مع هؤلاء النفاة ما حكاه بقوله: ولقد كان عندي من هؤلاء النافين لهذا من هو من مشايخهم، وهو يطلب مني حاجة، وأنا أخاطبه في هذا المذهب كأني غير منكر له، وأخرت قضاء حاجاته حتى ضاق صدره، فرفع رأسه إلى السماء، وقال: يالله، فقلت له: أنت محق، لمن ترفع طرفك؟ وهل فوق عندك أحد؟ فقال: أستغفر الله، ورجع عن ذلك لما تبين له أن اعتقاده يخالف فطرته، ثم بينت له فساد هذا القول، فتاب من ذلك، ورجع إلى قول المسلمين المستقر في فطرهم" (٣).

أما أقوال السلف في هذا الباب فكثيرة جدا، وسترد الإشارة إليها عند الرد على زعم الرازي أنه لم يقل بالجهة سوى الحنابلة والكرامية.

ثالثا: حجج النفاة واعتراضاتهم، والرد عليها: ليس النفاة العلو دليل نقلي واحد على ما يدعونه، سوى أثر مكذوب رواه ابن عساكر فيما أملاه في نفي الجهة عن شيخه ابن عبدالله العوسجي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((الذي أين الأين فلا يقال له: أين))، وقد حكم شيخ الإسلام بأنه مكذوب، وكثيرا ما يشير إليه باسم: حديث عوسجة (٤).

ولما لم يكن للنفاة دليل من الكتاب والسنة عولوا على ما زعموه من أدلة العقل، والاعتراض على أدلة السلف المثبتة له.

ومجمل أدلة النفاة هي:

١ - حججهم العقلية المعروفة مثل: التجسيم، والتركيب، والانقسام، والتجزء والتناهي، والتحيز، حيث قالوا: هذه لازمة لمن قال بالجهة والله منزه عنها.

٢ - اعتراضوا على أدلة السمع كلها بأنها معارضة بالعقل، والعقل عندهم مقدم على النقل عند التعارض.

٣ - أما دليل أن كل موجودين لابد أن يكون أحدهما داخلا في الآخر أو بائنا منه، وأنه لا يجوز أن يكون لا داخلا ولا بائنا – فقد اعترضوا عليه بأن هذا من حكم الوهم والخيال، وإلا فالقسم الثالث صحيح في القسمة العقلية، واستدلوا عليه بوجود العقول والكليات المطلقة.


(١) انظر: ((درء التعارض)) (٧/ ٣ - ٥، ١٣٥ - ١٣٤)، و ((نقض التأسيس)) – مطبوع – ((١/ ١١٠) (٢/ ٢١ - ٢٢، ٧٨، ١٠٣ - ١٠٤، ٤٨ - ٤٨١)، ومن المخطوط (١/ ٢٦ - ٢٧)، و ((مجموع الفتاوى)) (٥/ ١٥٢، ٢٧٥ - ٢٧٦)، و ((درء التعارض)) (٦/ ١١ - ١٣)، و ((منهاج السنة)) (٢/ ٥١٧) – ط دار العروبة – المحققة.
(٢) انظر: ((مجموع الفتاوى)) (٤/ ٤٤، ٦١، ٥/ ٢٥٩)، و ((الاستقامة)) (١/ ١٦٧)، و ((منهاج السنة)) (٢/ ٥١٥ - ٥١٧) – ط دار العروبة – المحققة، و ((نقض التأسيس)) – مخطوط – (١/ ٢٧ - ٢٧). وقد سبقت الإشارة إلى قصة الجويني والهمذاني – مع بعض مصادرها – في ((ترجمة الجويني)) (ص: ٦١٩).
(٣) ((درء التعارض)) (٦/ ٢٤٣ - ٢٤٤).
(٤) انظر: ((درء التعارض)) (٥/ ٢٥٥، ٦/ ٥)، و ((التسعينية)) (ص: ٢٦٣)، و ((نقض التأسيس)) – مطبوع – (١/ ٥٧١)، ولم أجد هذا الحديث الموضوع، ولعله لم يرد إلا في كتاب ابن عساكر في نفي الجهة كما أشار شيخ الإسلام.

<<  <  ج: ص:  >  >>