وقولي:(وكُلُّ مَا دُرِيْ) إلى آخِره - أَيْ: كُل ما عُلِم، وسَبق تفسيرُ "الدراية"، والذي دُرِي فيما ذكرناه المرادُ به التصور والتصديق السابقان، لا يخلو كل منهما إمَّا أنْ يَكون ضروريًّا، أَيْ: يَحْصُل للإنسان بالضرورة مِن غَيْر نَظَر، أو نَظَريًّا وهو بِخِلَافه فيهما، فالأقسام أربعة:
أحدها: التصور النظري: وهو ما تَوَقَّف على تَصَوُّر آخَر، بِأنْ يَكون المُتَصَوَّرُ مُرَكَّبًا؛ فيتوقف تَصَوُّره على تَصَوُّر ما تَرَكَّب مِنه، فَيُطْلَب تَصَوُّرُه مِن تَصَوُّرِ مادَّته وجُزئِه الصُّوري وهو جهة التركب؛ ولذلك يُسَمَّى مطلوبًا وذلك بمعرفة جُزئه الشامل له ولِغَيْره، ثُمَّ جُزئه المُمَيِّز له عن غَيْره، وهُمَا "الجنس" و"الفصل"، وربما عرفه بِلَازِمه كما سنذكره مِن بَعْدُ مُفَصَّلًا.
وفي معناه ما كان مِن البسيط في حُكم المُرَكَّب؛ فَيُمَيَّزُ باعتبار تَعَلُّقه اللازم له وإنْ كان خارجيًّا؛ ليتميز عن غَيْره، فتعريفه حينئذ بالرسم، لا بِالحَدِّ كما سيأتي، وذلك كَتَصَوُّر حقيقة الصلاة والحج ونحو ذلك.
ثانيها: التصديق النظري: وهو ما يتوقف على تصديقٍ سابقٍ عليه؛ لِكَونه دالًّا عليه، فَيُطْلَب مِنه؛ فلذلك يُسَمَّى النظري مطلوبًا، وسيأتي بيان الدليل وكيفية دلالته.
مثاله: الحكم بِكَوْن الصلاة واجبةً أو مندوبةً، وكَوْن الحج واجبًا على الفَوْر أو التراخي.
وذلك معنى قولي في التصوُّر والتصديق النظريَّيْن:(فَمَا عَلَى مِثْلٍ لَهُ تَوَقَّفَا فالنَّظَرِيُّ فِيهِمَا).
وإنما قَدَّمْتُ النظَرِيَّيْن على الضرورِيَّيْن؛ لأنَّ تقابُلَهما تَقابُل العلم والمَلَكَة، فلا تُعْرَف الأَعدام إلَّا بِمَلَكاتها.
ثالثها ورابعها: التصور الضروري والتصديق الضروري، وَهُمَا ما لا يتوقفان على