التصديق اليقيني، وهو "حُكمُ الذِّهنِ الجازمُ المطابِقُ؛ لِمُوجِبٍ". كذا عَرَّفه الإمامُ فخر الدين الرازي في "المحصول" في تقسيم حَصَر به "العِلم" وأضداده، ولكن بَعْد أنْ ذَكر قَبْل ذلك أنَّ العِلم ضروري لا يحتاج إلى تعريف، وأقام على ذلك دليلين ذكرهما ابن الحاجب في مختصره، وأجاب عنهما؛ فَعُدَّ ذلك مِن تناقض كلام الإمام.
والجواب عندي أنه أراد بـ "الضروري الذي لا يحتاج لِحَدٍّ"[العِلْمَ](١) بالإطلاق الأول (وهو مُجَرَّد الإدراك)، وما ذَكَره في التقسيم إنما هو العِلم بالمعنى الثالث الذي نَحْن فيه وهو أَخَصُّ مِن ذلك، ولا يَلْزَم مِن كَوْن الأَعَم ضروريًّا أنْ يَكون الأَخَصُّ ضروريًّا - كما سبق الوَعْدُ به.
وبالجُمْلَة فحاصل ما ذُكِر مِن قيود هذا التعريف ثلاثة: الجَزْمُ، والمطابقَةُ لِمَا في الخارج، وكَوْنُ ذلك لِمُوجِبٍ يَقْتَضِيه. وَكُل مِن الثلاثة مُحْتَرَزٌ به عن أمور هي أضداد للعِلم، فلا بُدَّ مِن شرح كل قَيْد وما احْتُرِزَ به عنه مِن قسائم العِلْم.
فقولي:(فَغَيْرُ جازِمٍ) إلى آخِره - بيان للمُحْتَرَز عنه بالقيد الأول وهو "الجَزْم"، ومعناه أنْ يعتقده بحيث لا يُحتمل عنده نقيضُه؛ فخرج عنه المحتملُ، وهو قِسمان: ما فيه طرفٌ راجحٌ، وما استوى طرفاه. فالأول يُسَمَّى الراجِحُ فيه "ظَنًّا" والمرجُوحُ فيه "وَهْمًا". والثاني (وهو المستوِي) يُسَمَّى "شَكًّا"، وربما أُطْلق "العِلْم" بمعنى "الظن" مجازًا كَعَكْسه إنْ قُلْنَا العِلْم حقيقةٌ في هذا المعنى الثالث؛ فَمِن ثَمَّ لَمْ أعُدّ مِن إطلاقات "العِلم" كَوْنه بمعنى الظن مِن حيث هو ظن، فإنَّ تلك إمَّا حقائق لُغَوِية إنْ ثَبَتَ استعمالُ العرب لها كذلك، وإمَّا حقائق عُرْفِية اشتهرت لِكَثْرة الاستعمال.
فَمِن إطلاق "العِلم" بمعنى الظن قوله تعالى: {فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ} [الممتحنة: