بعد أن حكى عن الشافعي أنه استدل به على أبي حنيفة في إبطال عِلته في الربا في الأثمان، فقال: لو كانت الفضة والحديد تجمعهما عِلة واحدة في الربا لم يَجُز إسلام أحدهما في الآخَر، وكذلك الحنطة والشعير لَمَّا جمعتهما عِلة واحدة لم يَجُز إسلام أحدهما في الآخَر. فلمَّا جاز بالإجماع إسلام الفضة في الحديد، دَلَّ على أنه لم يجمعهما عِلة واحدة. قال: فاختلف أصحابنا في الاستدلال به على وجهين، أصحهما وهو المذهب: أنه يصح.
وقد استدل به الشافعي في عدة مواضع. والدليل عليه أن الاستدلال بالعكس استدلال بقياسٍ مدلول على صحته بالعكس، وإذا صح القياس في الطرد وهو غير مدلولٍ على صحته، فَلأنْ يصح الاستدلال بالعكس -وهو قياس مدلول على صحته- أَوْلى. ويدل عليه أن الاستدلال به وقع في القرآن والسُّنة وفِعل الصحابة.
فأما القرآن: فنحو قوله تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا}[الأنبياء: ٢٢]، فدل على أنه ليس إله إلا الله؛ لِعَدم فساد السموات والأرض، وكذلك:{وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا}[النساء: ٨٢]، ولا اختلاف فيه؛ فَدَلَّ على أن القرآن من عند الله بمقتضَى قياس العكس.
وأما السُّنة: فكحديث: "يأتي أحدُنا شهوته ويُؤجَر؟ قال: أرأيتم لو وضعها في حرام؟ ". يعني: أكان يعاقَب؟ "قالوا: نعم. قال: فَمَهْ"(١).
فقاس "وَضْعُها في حلالٍ فيؤجَر" عَلَى "وَضْعها في حرام فيؤزر" بنقيض العلة.
وأما الصحابة - رضي الله عنهم -: ففي الصحيحين عن ابن مسعود - رضي الله عنه - أن: (رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال:"مَن مات يشرك بالله شيئًا، دخل النار"، قلتُ أنا: "ومَن مات لا يشرك بالله شيئًا، دخل
(١) صحيح مسلم (رقم: ١٠٠٦) بلفظ: "أَيَأتِي أَحَدُنَا شَهْوَتَهُ وَيَكُونُ له فيها أَجْرٌ؟ قال أَرَأَيْتُمْ لو وَضَعَهَا في حَرَامٍ أَكَانَ عليه فيها وِزْرٌ؟ فَكَذَلِكَ إذا وَضَعَهَا في الحْلَالِ، كان له أَجْرًا".