(كَلَمْ أَكُنْ في مَرْبَعٍ بَلْ تَيْهَا)، لَمْ أَكُنْ: يعني كقولك .. الكاف داخلة على مقولٍ محذوف: لم أكن أنا في مَرْبَعٍ، مَرْبَعٍ: هذا موضع الربيع، أو منزل الربيع، (بَلْ تَيْهَا) أصله: تيهاء بالهمز: الأرض التي لا يُهتدى بها، وقيل: الفلاة، وقيل: القفر، قصره للضرورة، إذاً:(بل) تفيد ما تفيده (لكِنْ)، لكن بشرط: أن يكون بعد نفيٍ أو نهيٍز
يعطف بـ (بل) وتكون حرف عطف بشرطين:
الأول: إفراد معطوفها، يعني: أن يكون ما بعدها مفرد، مثل:(لاَ).
الثاني: أن تُسبَق بإيجابٍ، أو أمرٍ، أو نفيٍ، أو نهيٍ، فإن وقع بعد (بل) جملة لم تكن عاطفة، لأن من شرط كونها عاطفة: أن يعطف بها المفرد، فإن وقع بعدها جملة لم تكن (بل) عاطفة، وكانت حينئذٍ حرف ابتداءٍ مثل (لكِنْ) دالٍ على الإضراب سواءٌ كان إبطالياً أو انتقالياً، الإضراب الإبطالي مثل ماذا؟ مثل قوله تعالى:((وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَداً سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ)) [الأنبياء:٢٦] بل: مضربٌ عنه بالكلية .. باطل، بل هم عبادٌ، عبادٌ: هذا خبر مبتدأ محذوف، لماذا؟ هل نقول: عدم التقدير أولى من التقدير؟ ((بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ)) [الأنبياء:٢٦] كيف نقول: من شروط (بل) إفراد معطوفها، وهنا نقول: بل عباد، أي: بل هم عبادٌ؟
ليست عاطفة، إذا كانت إضرابية حينئذٍ لم تكن عاطفة، وهنا لا بُدَّ من التقدير وإلا فسد المعنى، حينئذٍ تلا (بل) جملة، فحكمنا عليها بكونها ليست عاطفة بل هي حرف ابتداء:((وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَداً سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ)) [الأنبياء:٢٦].
أو انتقالياً .. ليس إضراب وإنما انتقال من حكمٍ إلى حكمٍ آخر، ولا يلزم منه أن يكون ما قبلها مبطلاً، يعني: باطل، كقوله تعالى:((قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى * وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى * بَلْ تُؤْثِرُونَ)) [الأعلى: ١٤ - ١٦] هل هو مثل: ((بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ)) [الأنبياء:٢٦]؟ لا، ((قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى)) [الأعلى: ١٤] هو الأصل هذا، ((بَلْ تُؤْثِرُونَ)) [الأعلى: ١٦] إذاً: انتقال من حكمٍ إلى حكمٍ آخر، هذا يُسمى: إضراباً انتقالياً، والأول الذي قُصِدَ به إبطال ما قبل (بل) بأنه حكمٌ فاسد يُسمى: إبطالاً كلياً.
إذاً: ("بَلْ" كَـ "لَكِنْ") يعني: أن (بل) إذا وقعت بعد مصحوبيّ (لكِنْ) وهما: النفي والنهي، كانت بمنزلة (لكنْ) في تقرير حُكْم ما قبلها وجعل ضِده لما بعدها.