وقوله (وَقَلَّ) أي التوكيد بعد هذه المذكورات الأربعة (بَعْدَ مَا وَلَمْ) حينئذٍ نقول قوله (قَلَّ بَعْدَ مَا) مراده أن التوكيد بعد (مَا) المذكورة قليل بالنسبة إلى ما تقدَّم، الأحوال الثلاثة السابقة:(ذَا طَلَبٍ أَوْ شَرْطاً أَوْ مُثْبَتاً فِي قَسَمٍ مُسْتَقْبَلاً) بالنسبة إلى هذه الثلاث التوكيد بعد (مَا) النافية قليل أما في نفسه فهو كثير، فالقلَّة هنا نسبيَّة. قليلٌ بالنسبة إلى ما تقدَّم لا قليلٌ مطلقاً فإنَّه كثير .. كثير في نفسه، وذلك أن (مَا) لمَّا لازمت هذه المواضع أشبهت عندهم لام القسم، فعاملو الفعل بعدها معاملته بعد اللام يعني: نزَّلوا (مَا) النافية مُنَزَّلة القسم فلذلك أكَّدوه كثيراً في نفسه، أما باعتبار السابق فهو قليل.
(وَقَلَّ بَعْدَ مَا)(مَا) الزائدة التي لا تصحب (إن) أما الزائدة التي تصحب (إن) هذه كما سبق مختلفٌ هل يجب أو لا؟ وهو كثير. نحو قولهم:(بِعَيْنٍ مَا أرَيَنَّكَ هَاهُنَا) هذا مثَل، (أرَيَنَّكَ) فعل مضارع مؤكَّدٌ بالنون، ما الذي سوَّغ له ذلك؟ وقوعه بعد (مَا) الزائدة وهي منفية.
وقلَّ دخول النون في الفعل المضارع الواقع بعد (مَا)، (وَلَمْ) يعني والواقع بعد (لَمْ) وهو قليل .. أقلُّ من (مَا) بل قيل: نادر، لماذا نادر؟ قالوا: لأن مدخوله في المعنى ماضي، وإذا كان ماضياً حينئذٍ وجِدَت فيه العلَّة في منع توكيد الفعل الماضي، قلنا الفعل الماضي لا يؤكَّد مطلقاً بلا خلاف، حينئذٍ لماذا مُنِع الفعل الماضي؟ لكون النون تدلُّ على الاستقبال .. تخلِّص الفعل الاستقبال.
حينئذٍ قد يكون اللفظ كما سبق في أول الكتاب (ماضي لفظاً ومعنىً، معنىً لا لفظاً، لفظاً لا معنىً) القسمة ثلاثية، والفعل المضارع التي دخلت عليه (لَمْ) هو ماضٍ من جهة المعنى (لم يَضْرِب زيدٌ عمراً) لم يضربه في الماضي لا في المستقبل.
إذاً: الواقع بعد (لَمْ) نقول قلَّ دخول النون عليه والقلَّة هنا بمعنى (الندور) كقول الشاعر:
(مَا لَمْ يَعْلَماَ) الألف هذه هي نون التوكيد الخفيفة انقلبت ألفاً في الوقف كما سيأتي، إذاً (يَعْلَمن) هذا الأصل. ونصَّ سيبويه على أنَّه ضرورة يعني: القلَّة ليست (ندور) فحسب أنَّه ضرورة يعني يختصُّ بالشعر فحسب ولا يجوز استعماله في النثر للعلَّة التي ذكرناها وهي: أن مدخوله ماضٍ .. مدخول (لَمْ).
ونصَّ سيبويه على أنَّه ضرورة، لأن الفعل بعد (لَمْ) ماضي المعنى كالواقع بعد (رُبَّما) كذلك، رُبَّما قالوا: يمتنع أن يؤكَّد الفعل بعدها بل قيل هو شاذ، وإن قال ابن مالك في شرح الكافية:"وهو بعد (رُبَّما) أحسن" يعني توكيد الفعل بعد (رُبَّما) مع كونه ضرورة أو نادر أو شاذ أحسن من توكيد الفعل بعد (لَمْ) لأن (لَمْ) تقلب الفعل المضارع من زمَّن الحال أو الاستقبال إلى المُضي قطعاً في كلِّ تركيب.