[الإسراء بالنبي صلى الله عليه وسلم إلى بيت المقدس]
والإسراء بالنبي عليه الصلاة والسلام كان إلى بيت المقدس، وإمامته للأنبياء كانت في بيت المقدس، والمعراج إلى السماء كان من بيت المقدس، إذاً: هناك حلقات متصلة وارتباط وثيق بين مكة المكرمة وبين المدينة النبوية، وبين بيت المقدس، وبين السماء الأولى والسماء الثانية حتى السابعة، وحتى سدرة المنتهى، هذه أشياء في حياتنا وفي دمائنا لا يمكن أن نفرط فيها أبداً.
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي عليه الصلاة والسلام: (لقد رأيتني في الحجر -أي: في حجر الكعبة- وقريش تسألني عن مسراي، فسألتني عن أشياء من بيت المقدس لم أثبتها)، أي: لم أكن أذكرها جيداً، كأنه يذكرها من بعيد، قال: (فكربت لذلك كربة عظيمة)، خاف النبي صلى الله عليه وسلم إذا لم يجب هؤلاء المشركين على أسئلتهم أنهم سيقولون له: أنت كذاب، قال: (فرفعه الله إلي أنظر إليه)، أي: أن ربنا أنجد عبده ورسوله فأتى له بالمسجد الأقصى ووضعه بين يديه في مكة، فالمشركون سألوه: أنت تقول بأنه أسري بك إلى بيت المقدس في هذه الليلة وأيضاً عرج بك إلى السماء السابعة، ورجعت مرة أخرى إلى المسجد الأقصى، وركبت بعد ذلك البراق وجئت مكة مرة أخرى، كل هذا في الليلة هذه؟ فإذا كان كذلك فصف لنا أوصاف المسجد؟ لما سألوه السؤال هذا كرب لذلك كرباً عظيماً، فأنجده الله، فرفع إليه المسجد الأقصى حتى نظر إليه، فكانوا يسألونه وهو ينظر إلى البيت ويصفه لهم، فأي كرامة وأي معجزة للنبي عليه الصلاة والسلام؟! فمعجزاته عليه الصلاة والسلام المادية لا تكاد تقع تحت حصر، قال: (ما يسألون عن شيء إلا أنبأتهم به، وقد رأيتني في جماعة من الأنبياء، فإذا موسى قائم يصلي فإذا رجل ضرب جعد كأنه من رجال شنؤة، وإذا عيسى بن مريم عليه السلام قائم يصلي، أقرب الناس به شبهاً عروة بن مسعود الثقفي، وإذا إبراهيم قائم يصلي أشبه الناس به صاحبكم) يعني: نفسه عليه الصلاة والسلام.
إذاً: نبينا أشبه الناس بأبيه إبراهيم عليه السلام، قال: (فحانت الصلاة فأممتهم)، أي: فصلى بهم إماماً، (فلما فرغت من الصلاة قال قائلهم: يا محمد! هذا مالك صاحب النار فسلم عليه، قال: فالتفت إليه فبدأني بالسلام)، وفي رواية: (فسلمت عليه).
والرسول عليه الصلاة والسلام تسلم في ليلة الإسراء مفاتيح الشام ومفاتيح بيت المقدس من الأنبياء الذين صلى بهم، يعني: تسلم مفاتح الشام من إبراهيم عليه السلام، ومن سليمان، ومن يعقوب، ومن داود، ومن الأنبياء الذين تعاقبوا على أرض الشام، وكان لهم اتصال وثيق بالبيت المقدس، فتسلم النبي عليه الصلاة والسلام مفاتيح بيت المقدس من الأنبياء، وفي هذا إشارات متعددة: أولاً: اعتراف من هؤلاء الأنبياء جميعاً بأن صاحب الميراث الشرعي في هذه البلاد وفي هذا الحرم القدسي إنما هو النبي عليه الصلاة والسلام وأمته من بعده؛ إشارة إلى أننا أصحاب الميراث وليس اليهود الملاعين، فأمة محمد هي صاحبة الميراث الحقيقي في البيت المقدس والشام عموماً.
ثانياً: اعتراف من هؤلاء الرسل جميعاً بفضل ومنزلة رسول الله عليه الصلاة والسلام، ومكانته عند الله، ومكانة أمته كذلك، وتسليم منهم أنه أفضل الخلق وأكرمهم على الله عز وجل.
ثالثاً: اعتراف بختم النبوة والرسالة بنبوة ورسالة نبينا محمد عليه الصلاة والسلام، فلا وحي بعده، ولا نبي بعده.
رابعاً: دعوة هؤلاء الأنبياء لبني إسرائيل أن يدخلوا في دين محمد عليه الصلاة والسلام، فلا دين بعده، ودين محمد هو ناسخ لجميع الشرائع السابقة ولجميع الكتب السابقة، وإن كان الإيمان بجميع الأنبياء والمرسلين حتم لازم على كل مسلم، ولا يؤمن العبد إلا إذا آمن بجميع الأنبياء وجميع الكتب ما ذكر منها وما لم يذكر، ومن ذكر منهم ومن لم يذكر، على سبيل الإجمال قبل التحريف والتبديل، ومن كفر بنبي واحد كفر بجميع الأنبياء، ومن كفر بكتاب واحد كفر بجميع الكتب، قال تعالى: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ} [البقرة:٢٨٥].
وبين النبي عليه الصلاة والسلام أن أركان الإيمان ستة، فقال: (أن تؤمن بالله، وملائكته وكتبه)، ولم يقل: الكتاب، (ورسله) ولم يقل بأن تؤمن بي، وإنما أن تؤمن بجميع الأنبياء، فمن قال: أنا أؤمن بجميع الأنبياء عدا موسى أو عيسى فقد كفر بجميع الأنبياء حتى بمحمد عليه الصلاة والسلام، ولذلك من الحجج المنطقية العقلية أن من آمن بجميع الأنبياء هو أحق بالميراث ممن كفر بنبي واحد، فنحن أحق الناس بأرض الشام وأرض فلسطين؛ لأننا نؤمن بجميع الرسل والأنبياء، كما أننا نؤمن بجميع الكتب، فنحن أحق بالميراث من غيرنا.
خامساً: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان هو أول فاتح لبلاد بيت المقدس، لكنه فتحها نظرياً، فتحها عملياً كان في زمن عمر بن الخ