ثانياً: الشام صفوة بلاد الله عز وجل، يسكنها خيرته من خلقه، قال النبي عليه الصلاة والسلام:(عليكم بالشام؛ فإنها صفوة بلاد الله)، لما كنت في الشام مكثت بها ما يقرب من سبعة أعوام، وأنا خارج منها ما خرجت منها راغباً، بل خرجت منها إن لم أكن طريداً فشبه طريد، وكأني أنزع قلبي، وما أذكر أنني بكيت من قلبي مرة إلا وأنا خارج من تلك البلاد، حتى عدت إليها بعد ثلاثة أعوام من طردي، فإذا بإخواني وأصحابي يستقبلونني هناك في مطار علياء استقبال الفاتحين؛ لأن هذه أخلاق شعب الشام، فإن الرجل من عامة الشعب هناك يوازي عندنا رجلاً قد تربى على الكتاب والسنة يشار إليه بالبنان، والله! لا أقولها تحيزاً لهذه البلاد فإنما هي بلادنا جميعاً، وليست بلداً لي فحسب.
قال النبي عليه الصلاة والسلام:(عليكم بالشام فإنها صفوة بلاد الله، يسكنها خيرته من خلقه).
إذاً: هذه البلاد هي صفوة البلاد، وساكنها هم خيرة عباد الله عز وجل، قال:(فمن أبى فليلحق بيمنه)، أي: فمن أبى أن يسكن بلاد الشام فليسكن في اليمن، فبين النبي عليه الصلاة والسلام أن اليمن وإن كان فيها فضل إلا أنه يقل عن فضل أهل الشام وبلاد الشام، ولذلك أثنى النبي عليه الصلاة والسلام على اليمن، فلما دخل أهل اليمن على النبي عليه صلى الله عليه وسلم قال:(أتاكم أهل اليمن أرق الناس أفئدة، وألينهم قلوباً، الفقه يمان، والإيمان يمان، والحكمة يمانية)، وما زلنا نلحظ الطيب وحسن الخلق في أهل اليمن, وإنا -والله- نحبهم في الله، بل نحب كل مسلم في الله عز وجل على قدر ما فيه من طاعة، ونبغضه على قدر ما فيه من معصية، وهذا أصل من أصول الإيمان عند أهل السنة والجماعة: ألا يعقد الحب والبغض إلا في الله، فمن أعظم شعب الإيمان: الحب في الله والبغض في الله.
ولكن النبي صلى الله عليه وسلم بين في هذا الحديث فضل أهل اليمن، إلا أن فضل أهل الشام فوقهم في الفضل، قال النبي عليه الصلاة والسلام:(عليكم بالشام فإنها صفوة بلاد الله، يسكنها خيرته من خلقه، فمن أبى فليلحق بيمنه، وليسق من غدره)، والغدر: جمع غدير، وهو الطريق في الأرض، أو الوعاء يجمع فيه الماء، وسمي غديراً لأنه يغدر بأهله في وقت الحاجة والشدة.
قال:(فإن الله عز وجل تكفل لي بالشام وأهله)، أي: هو الذي حفظ ورعى وصان، قال المناوي: الشام مصطفاة من بلاده -أي: هي أرض اصطفاء وبركة- يجمع إليها المختارين من عباده، ضمن حفظها وحفظ أهلها القائمين بأمر الله.
وعن عبد الله بن حوالة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (سيصير الأمر إلى أن تكونوا جنوداً مجندة)، يعني: سيئول أمر الأمة في آخر الزمان إلى أن تكون هذه الأمة جنوداً، (جنداً بالشام، وجنداً باليمن، وجنداً بالعراق، قال ابن حوالة: خر لي يا رسول الله!)، أي: اختر لي في أي الأجناد أكون بجند الشام، أم اليمن، أم العراق؟ قال عليه الصلاة والسلام:(عليك بالشام حينئذ؛ فإنها خيرة الله من أرضه يجتبي إليها خيرته من عباده، فأما إن أبيتم فعليكم بيمنكم، واسقوا من غدركم، فإن الله توكل لي بالشام وأهله)، قال ربيعة: فسمعت أبا إدريس يحدث بهذا الحديث يقول: ومن تكفل الله به فلا ضيعة عليه، يعني: من تولى الله تعالى كفالته ورعايته فلا يضيع أبداً، إذا كان الله تعالى تكفل بحفظ الشام فمن يضيعهم إذاً؟ لا يضيعون أبداً رغم أنف اليهود الحاقدين.
وقال النبي عليه الصلاة والسلام لـ عبد الله بن حوالة:(أتدري ما يقول الله تعالى في الشام؟ إن الله تعالى يقول: يا شام! أنت صفوتي من بلادي أدخل فيك خيرتي من عبادي، إن الله تكفل لي بالشام وأهله)، وهذا ثناء، ومدح، وحفظ، ورعاية من الله تعالى، وبشارة عظيمة من النبي عليه الصلاة والسلام لأهل الشام، وهناك في نفس هذا المعنى أحاديث كثيرة جداً.