انطلقنا منها في الفصل السابق، ومن هنا نبدأ ندرك أن حدود هذا التفسير وحده ضيقة جداً، كما سنزيد في توضيح ذلك. فإذا عدنا للسؤال الذي أوردناه في صدر هذا الفصل، نجد أننا قد قدمنا له ما يسمى (جواب البديهة) أي الجواب الذي قلما يصيب وكثيراً ما يخطئ في المجال العلمي، ولكنه أعطانا فرصة التنقيب في تجربتين متعاصرتين ومعاصرتين لنا.
ويبقى السؤال مطروحاً بصدد كيفية توزيع الإمكانيات الاقتصادية في العالم، لماذا وعلى أي أساس يقوم ذلك التوزيع؟
إن جوابنا بـ (التصنيع) لم يقنعنا، لأن سؤالاً آخر يبقى بعده: لماذا انطلق العهد الصناعي في القارة الشمالية منذ بدايته، أي منذ اكتشاف الطاقة البخارية؟
إن ظاهرة البخار تحت الضغط صاحبت تاريخ الإنسانية منذ اكتشاف الآدميين للنار، دون أن يلتفت أحد منهم إلى إمكان استخدام هذه الظاهرة مصدراً للطاقة حتى أتى عصر (دنيس بابان Denis Papin) و (واط Watt) اللذين سخرا تلك الطاقة الهائلة التي دفعت الإنسان في العهد الصناعي.
إن أحداً لا يتصور حدوث هذا الاكتشاف فقط في حدود عقل إنسان اسمه (دنيس بابان) أو (واط)، وإنما وقع بسبب تغيير جدري حدث في المناخ العقلي الأوربي كافة، منذ ما يسمى بـ (النهضة) وخصوصاً منذ بداية القرن السادس عشر الميلادي، أي مباشرة بعد اكتشاف أمريكا وآلة الطباعة.
وإذا كان (ديكارت) في القرن السابع عشر، أو من ترجم هذا التغيير الشامل في المناخ العقلي الأوربي إلى منهج تفكير، فلأنه ولد في هذا المناخ وترعرع فيه، وتأمل فيه فكان من الطبيعي أن تأتي نتيجة تأملاته في كتابه (مقال عن المنهج) كما أتت، في تلك العبارات التي تعلن المنعطف الجديد الذي اتخذه الفكر الأوربي.