[غضب الرسول لأبي بكر]
قال أبو الدرداء: بينما كنت جالساً عند النبي صلى الله عليه وسلم إذ أقبل أبو بكر الصديق آخذاً بطرف ثوبه حتى أبدى عن ركبتيه، وهذه الجملة يستدل بها الفقهاء، وكل حديث تجد فيه فوائد مستنبطة تنفع كل مؤمن فقهاً وعقيدة وتوحيداً، وليس هذا خروجاً عن الموضوع ولكن الشيء بالشيء يذكر، وهذه الطريقة كان يفعلها شيخ الإسلام ابن تيمية، والجهلاء كانوا يعترضون على شيخ الإسلام ويقولون: نكلمه عن المشرق، فيتكلم عن الشمال والجنوب والغرب، قال ابن القيم: وهذا من جهلهم وسعة علمه؛ لأنه ما يرى فائدة من الفوائد في أي كلمة من كلام النبي إلا وبينها للناس حتى يستفيدوا ويعلموا أن رسول الله أوتي جوامع الكلم.
ومن هنا استنبط الفقهاء أن الركبة لا تدخل في العورة، وكثير من الناس يقولون: العورة من السرة إلى الركبة، وهذا يلزم منه أن الركبة من العورة، وأنا أستدل بهذا الحديث بعدم كونها من العورة، ووجه الدلالة إقرار النبي صلى الله عليه وسلم لفعل أبي بكر، إذ لو كانت الركبة عورة فلن يسع النبي أن يسكت ولقال لـ أبي بكر: الركبة عورة غط ركبتيك، فإن تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز، والنبي صلى الله عليه وسلم قد أمر بالتبليغ.
فقال أبو الدرداء: (حتى أبدى عن ركبتيه فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أما صاحبكم فقد غامر! فسلم، وقال: إني كان بيني وبين عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه مشاحنة ثم ندمت).
يعني: أن المشاحنة حصلت، واشتد أبو بكر على عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه، قال: فسألته أن يغفر لي فأبى علي، فأقبلت إلى الرسول فقال: يغفر الله لك يا أبا بكر؛ لأن هذه تغمر في بحر حسنات أبي بكر رضي الله عنه وأرضاه، كيف لا وقد قال الفاروق عندما نظر إليه وهو يموت، ويوصي بثوبه الجديد لبيت مال المسلمين ويقول: كفنوني في ثوبي البالي فبكى عمر وقال: أتعبت من بعدك يا أبا بكر: ليتني شعرة في صدر أبي بكر رضي الله عنه وأرضاه.
فقال الرسول: (يغفر الله لك يا أبا بكر ثلاثاً، ثم إن عمر ندم فأتى منزل أبي بكر فقال: أثم أبو بكر؟ أي: هنا أبو بكر؟ قالوا: لا، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فجعل وجه النبي يتمعر على عمر).
والنبي صلى الله عليه وسلم كان يعذر الناس، ولكنه مع ذلك لا يقدم أحداً على أبي بكر؛ لأنه من الظلم البين أن تضع أحداً في موضع ليس أهلاً له، ومن الظلم كذلك ألا تنزل الناس منازلهم.
قال: (فتمعر وجه النبي صلى الله عليه وسلم حتى أشفق أبو بكر، فجثا على ركبتيه وقال: يا رسول الله! والله إني كنت أظلم مرتي)، فأراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يبين منزلة أبي بكر ومنزلة عمر، فقال: (إن الله بعثني إليكم فقلتم: كذب) والذي قال ذلك قريش ومن فيهم، والفاروق أيضاً كان معهم وأبو بكر لم يكن كذلك، فله السبق هنا (وقال أبو بكر: صدق، وواساني بنفسه وماله، فهل أنتم تاركو لي صاحبي؟ (مرتين) فما أوذي بعد هذا).
وجاء أنه حدث بين أبي بكر وبين رجل من الأنصار مشكلة، فاشتد أبو بكر رضي الله عنه وأرضاه على الأنصاري، ثم ندم فقال للرجل: سامحني على ما فعلت، فقال الرجل لـ أبي بكر: يغفر الله لك، وقال: اقتص مني، قال: لا أقتص منك يغفر الله لك.
قال: اقتص مني وإلا استعديت عليك رسول الله، فاندهش الأنصار وقالوا: سبحان الله! يسبك ويذهب ليستعدي عليك رسول الله، والله لنذهبن معك إلى رسول الله فنقص عليه القصة، ولكن من فقه هذا الأنصاري أنه كان يعلم أن رسول الله قد أنزل أبا بكر مكانتة عظيمة، وقال: اسكتوا لا يسمعكم أبو بكر فيغضب فيذهب إلى رسول الله فيغضب رسول الله لغضب صاحبه، فيهلك صاحبكم، ثم ذهب الرجل إلى رسول الله فقال: (حدث كيت وكيت وكيت، وقلت له: يغفر الله لك.
قال: نعم، قل يغفر الله لك يا أبا بكر!).
وقال عبد الله بن المبارك: إنما سمي أبو بكر صديقاً؛ لأنه يكذب قط، ووالله ما قالوا له حادثة نقلوها عن رسول الله إلا وقال: أو قال محمد صلى الله عليه وسلم ذلك؟ فإن قالوا: نعم.
قال: فقد صدق.