للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[زهد وورع عمر بن الخطاب]

روي عنه أنه احتبس عن الناس يوم الجمعة فخرج يعتذر إليهم ويقول: إنما احتبست؛ لأني غسلت ثوبي -يعني قميصه- فهذا هو الزهد العالي لـ عمر بن الخطاب أمير المؤمنين ما عنده إلا ثوب واحد فقط! ولذلك جعل الله جل وعلا خلافته فتحاً، وفتح الدنيا بأسرها في مدة وجيزة من عمر الزمن، وملكوا ملك كسرى وقيصر؛ لأنهم باعوا الدنيا بحق لله جل في علاه.

هذا وخزانة الدنيا بأسرها في يده وليس معه إلا ثوب واحد يغسله حتى يذهب يصلي! سبحان الله! والله لن تصلح هذه الأمة إلا بما صلح به الأولون، وقال أنس: رأيت عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه وقد رقع بين كتفيه بثلاث رقاع قد لبد بعضها فوق بعض.

ويروى عنه رضي الله عنه وأرضاه أنه كان يقول: لا تأكلوا الدقيق فإنه طعام الكل، أي: أنه لا يستطيب النقي منه، بل كان يأكل الخل والزيت ويقول لبطنه: قرقري كيفما شئت، والله! ما لك إلا هذا الطعام رضي الله عنه وأرضاه.

وورد أنه شرد بعير من بعير الصدقة فتبعه وعثمان بن عفان يستظل في بيته، وعمر يتبعه في حر الرمضاء فيقول: من هذا المجنون الذي يمشي في وسط حر الرمضاء؟ فإذا هو أمير المؤمنين فنادى: يا أمير المؤمنين! ما الذي تفعله في هذا الحر الشديد؟ فقال: بعير من بعير الصدقة قد شرد، قال: مر أحد عمالك أن يرده عليك، فقال: أو عمالي يجيبون عني أمام ربي؟ فاستجمع ثيابه وأخذ يسرع خلف البعير حتى رده إلى مكان الصدقة، فرحم الله عمر بن الخطاب.

قال طاوس: أجدب الناس على عهد عمر فما أكل سميناً حتى أكل الناس، أي: ما أكل لحماً حتى أكل الناس، ويرى نفسه أحد الرعية يخشى أن يتقدم عليها حتى في الطعام.

وكان عمر يدني يده من النار ويقول: (يا ابن الخطاب! ألك صبر على هذا؟).

وهذه القصص لابد من النظر في أسانيدها، فالأصل عند المحدثين التساهل في أسانيد التراجم، والذهبي في سير أعلام النبلاء ينقل كثيراً من كرامات الإمام أحمد وكثير من أسانيدها فيها متكلم فيهم بل فيها هلكى ووضاعون.

ويروى عنه أنه لما قدم الشام لقيه الجنود وعليه إزار وعمامة وهو آخذ برأس راحلته يخوض الماء وقد خلع خفيه وجعلهما تحت إبطيه، فقالوا: له يا أمير المؤمنين! الآن يلقاك الجنود وبطارقة الشام وأنت على هذه الحال.

فقال: إنا قوم قد أعزنا الله بالإسلام فمهما ابتغينا العزة في غيره أذلنا الله.

هذه كلمات تكتب بماء الذهب وأبو عبيدة بن الجراح أمين الأمة هو الذي استدرك على عمر بن الخطاب عندما وجد المخاضة وأراد أن يعبر عمر هذه المخاضة، فخلع نعله ثم مر على المخاضة، فقال: ما لي أراك يا أمير المؤمنين تسير بهذه الهيئة؟! ما أحب أن يراك البطارقة بهذا النظر، فقال: لو غيرك قالها! إنا كنا أذل قوم فأعزنا الله بهذا الدين، ولو ابتغينا العزة بغيره أذلنا الله، كلامه نبراس لكل مؤمن تقي يريد العزة والرفعة لهذه الأمة، قال الله تعالى: {أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا} [النساء:١٣٩].

اللهم أعزنا بدينك وبطاعتك يا رب العالمين.

قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه: رأيت عمر بن الخطاب يعدو على قدمه فقلت: يا أمير المؤمنين! إلى أين؟ فقال: ند بعير من الصدقة فأنا أطلبه.

فقال: لقد أتعبت الخلفاء بعدك يا أمير المؤمنين، وحق له أن يقول ذلك، فقال: لا تلمني يا أبا الحسن فوالذي بعث محمداً بالنبوة لو أن سخلة ذهبت بشاطئ الفرات لأخذ بها عمر يوم القيامة، ألا إنه لا حرمة لوال ضيع المسلمين.

وهذا كما قال النبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين: (ما من راع استرعاه الله على رعية فمات يوم مات وهو غاش لها لم يرح رائحة الجنة).

قال عمر بن الخطاب لـ معاوية بعد أن سأله عن سبب قلة نومه: إن نمت بالنهار ضيعت الرعية، وإن نمت بالليل ضيعت نفسي، فكيف بالنوم مع هذين يا معاوية؟! وقد أخذ عمر بنصيحة أبي بكر رضي الله عنه وأرضاه عندما قال له وهو على فراش الموت: يا عمر! إن لله عملاً بالليل لا يقبله بالنهار، وإن لله عملاً بالنهار لا يقبله بالليل، فأخذ بالنصيحة وعلم أن الليل بينه وبين ربه وأما النهار فهو للرعية.

نقل المؤرخون عن بعض الصحابة قالوا: كنا نرى خطين أسودين على خدي عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه من البكاء.

وروي عنه أنه طاف ليلة فإذا هو بامرأة في جوف دارها حولها صبية يبكون وهي توقد تحت قدر لها، فأتى من الباب وقال: يا أمة الله! ما بكاء هؤلاء الصبية؟ فقالت: من الجوع.

فقال: ما في هذا القدر؟ قالت: جعلت فيه ماء أوهمهم أن فيه شيئاً وأعللهم حتى يناموا، فذهب عمر إلى بيت مال المسلمين فأخذ غرارة وجعل فيها شيئاً من دقيق وسمن وشحم وتمر وثياب ودراهم حتى ملأ الغرارة، ثم قال: يا أسلم! احمل علي.

قال أسلم: يا أمير المؤمنين أنا أحمله عنك، فقال لي: لا أم لك يا أسلم، أنا أحمله؛ لأني أنا المسئول عنه في الآخرة، قال: فحمله على صلبه حتى أتى منزل المرأة فأخذ القدر فجعل فيها دقيقاً وشيئاً من شحم وتمر وجعل يحركه وينفخ تحت القدر.

قال أسلم: وكانت لحيته عظيمة فلقد رأيت الدخان يخرج من خلال لحيته حتى طبخ لهم، ثم جعل يغرف بيده ويطعمهم حتى شبعوا، ثم خرج وربض بحذائهم كأنه سبع، وخفت منه أن أكلمه، فلم يزل كذلك حتى لعب الصبيان وضحكوا، ثم قال: يا أسلم! هل تدري لم ربضت بحذائهم؟ قلت: لا يا أمير المؤمنين قال: كنت قد رأيتهم يبكون فكرهت أن أذهب وأدعهم حتى أراهم يضحكون، فلما ضحكوا طابت نفسي! عليك رضوان الله يا أمير المؤمنين! قد أتعب حقاً من بعده ولم يصل أحد إلى ما وصل إليه.

كفانا فخراً بـ عمر بن الخطاب وهو على فراش الموت بعدما طعنه أبو لؤلؤة المجوسي -عليه من الله سحائب اللعان تنزل تترى- بعدما شرب اللبن فخرج من الفتحة التي طعن فيها، فدخل عليه شاب فقال: أبشر يا أمير المؤمنين! كنت كذا وكنت كذا وكنت كذا وبعدما بشره لم يستح أن ينكر عليه المنكر الذي وقع فيه، نظر إليه فوجد ثوبه مسترخياً أي: كان مسبلاً، فقال له: يا بني! ارفع ثوبك، فإنه اتقى لربك وأنقى لثوبك.

انظروا كيف عمر بن الخطاب يعمل بحديث النبي صلى الله عليه وسلم: (لو كان في يد أحدكم فسيلة) فكان يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، وهذا كان يبشره بالجنة وبفضائل أعماله، وما حمله ذلك على الاستحياء منه، وهذه فيها دلالة قوية قاطعة على تحريم إسبال الثياب.

<<  <  ج: ص:  >  >>