[من مناقب أبي بكر]
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله.
ما زلنا مع هذه الشموس التي أشرقت في سماء إسلامنا، مع مصابيح الدجى مع منارات الهدى مع صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، أحسن الناس خلقاً، وأعمقهم إيماناً، وأبرهم قلوباً، الذين صحبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم واقتدوا بهديه، واستنوا بسنته، وعضوا عليها بالنواجذ مع الذين أنزل الله عدالتهم من فوق سبع سماوات مع الذين قال الله فيهم: {وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا} [الفتح:٢٦]، مع أكبر شمس في سماء إسلامنا مع أعظم رجل بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم مع من خاطبه الله بصيغة التعظيم والتبجيل هنيئاً لك يا أبا بكر! فإن الله جل في علاه يخاطبك ويتكلم عنك بصيغة التبجيل والتعظيم فجبار السماوات والأرض يقول عن أبي بكر: {وَلا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ} [النور:٢٢] باتفاق المفسرين أن المقصود بأولي الفضل هو أبو بكر رضي الله عنه وأرضاه.
فضائل أبي بكر رضي الله عنه صدرها التاريخ لنا نبراساً، فهذه هي الفضائل التي يحتذي بها المؤمن التقي النقي الذي يريد أن يسارع إلى ربه جل في علاه فيحتذي حذو ما فعل أبو بكر رضي الله عنه وأرضاه العظيم المعظم من قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم، لقد وردت الآثار أن النبوة والوحي إن لم تنزل على رسول الله لنزلت على مثل هذا الرجل؛ لأنه كان أشبه الناس برسول الله صلى الله عليه وسلم في خلقه سمته عمله قلبه تصديقه يقينه بالله جل في علاه.
قال الله في أبي بكر يبين فضله: {ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} [التوبة:٤٠] إن نبي الله صلى الله عليه وسلم ما اختار الله له في الهجرة إلا خير صاحب؛ ليأنس به رسول الله، ويدافع عن رسول الله، ولنعم ما اختار الله جل في علاه! وقد ظهر ذلك جلياً عندما سار مع رسول الله وهو يقص علينا كيف سار مع رسول الله، قال: (كنت مع رسول الله أتقدم رسول الله وأتخلف عنه، وآتي يميناً وآتي يساراً) لو نظر الناظر في فعل أبي بكر يقول: ماذا يفعل هذا الرجل؟! تارة أمامه، ثم تارة خلفه، ثم عن يمينه، ثم عن شماله، لم هذا؟! وهذا السؤال أجاب عنه أبو بكر رضي الله عنه وأرضاه فقال: كنت أخشى الطلب فأتراجع خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم -نفسي فدىً لرسول الله صلى الله عليه وسلم- ثم أخشى العدو الذي يأتي من الأمام فأتقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم عن يمينه وعن شماله.
ولما قدر الله أن يختبر إيمان هذا الرجل العظيم الجليل دخل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في الغار قال تعالى: ((ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ)) لما دخل مع رسول الله علمنا أدباً جماً لابد أن يتعامل به الإنسان مع العظماء والشرفاء، مع الأكارم والأفاضل؛ فإن أبا بكر أفضل الناس بعد رسول الله بين لنا كيف يفعل هذا الفاضل مع من هو أفضل منه، تقدم رسول الله -وهذا التقدم ليس بسوء أدب بل هو قمة الأدب خشية على صحة ونفس رسول الله صلى الله عليه وسلم- إلى الغار، دخل يستكشف أي خطر ممكن أن يجهز على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فشمس الإسلام لن تشرق إلا بيد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدخل أبو بكر ينظر في فتحات هذا الغار فيسد كل فتحة من فتحات الغار، وتبقى فتحة واحدة، فلما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم سد أبو بكر الفتحة الأخيرة برجله، وكان رسول الله -وهذه من السنن المهجورة، أن الفاضل إذا جلس مع المفضول نام على حجره، فهذا فيه دلالة على التواد والوفاق- قد نام على حجر أبي بكر رضي الله عنه وأرضاه، وأبو بكر يسد الفتحة برجله، فجاءت عقرب فلدغت أبا بكر رضي الله عنه وأرضاه فما تحرك أبداً حتى لا يوقظ رسول الله صلى الله عليه وسلم، والله الذي لا إله إلا هو من يتصفح صفحات التاريخ يعلم لم اختار الله هؤلاء القوم ليسودوا الناس، وليتربعوا على عرش الأمم في مدة وجيزة من عمر الزمن! انظروا الرجل تلدغه عقرب بسم ناقع في جسده ولا يتحرك؛ لمكان رسول الله صلى الله عليه وسلم من حجره! لكن يقدر الله ليأتي الشفاء لـ أبي بكر رضي الله عنه وأرضاه؛ لأن الله يأبى إلا أن يستخلف أبا بكر، فبكى أبو بكر من شدة التألم؛ فنزلت دموع أبي بكر رضي الله عنه وأرضاه على خد رسول الله صلى الله عليه وسلم فأيقظته، فلما علم رسول الله صلى الله عليه وسلم الخبر وضع يده على رجل أبي بكر ثم رقاه؛ فشفاه الله جل في علاه.
وجاء القوم يطلبون رسول الله فقام أحدهم يبول، فقال أبو بكر: يا رسول الله! أحدهم يبول -والله لا بد لهذه الأمة أن ترجع إلى ربها جل في علاه- نعم يبول أمامه عياناً ولا يراه؛ لأن قدرة الله جل وعلا تخفي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أبصارهم، ومن استيقن في ربه أتاه ما يتمناه من ربه جل في علاه، وقال: (يا رسول الله! إنهم فوقنا لو نظر أحدهم تحت قدميه لرآنا).
انظروا في يقين الرسول صلى الله عليه وسلم، عبر ونوادر إيمانية تستنبط من المواقف، مواقف إيمانية عزيزة عظيمة جليلة، فرسول الله يربي أبا بكر حتى يربينا على اليقين بالله جل في علاه، فقال: (يا أبا بكر!) بقلب ثابت! بقلب مستيقن في ربه جل في علاه! (يا أبا بكر! ما بالك باثنين الله ثالثهما؟).
يراقب ربه ويعلم أن الله جل وعلا ناصره رغم أنف الكافرين، ويعلم أن الله جل وعلا منقذه من الهلكة حتماً، (يا أبا بكر! ما ظنك باثنين الله ثالثهما؟).
الله جل في علاه يعمي الأبصار وهي تنظر، ويصم القلوب والآذان وهي تسمع سبحانه جل في علاه، أما رأيتم ربكم عندما استيقن به موسى كما استيقن به محمد صلى الله عليه وسلم؟! العدو خلفهم فرعون ومن معه، والبحر أمامهم ولا أحد منقذ لهذه الفرقة، يقول قومه: يا موسى! أدركنا القوم! ماذا يقول؟! يقول موسى المستيقن في ربه: {كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الشعراء:٦٢] فأوحى الله إليه أن اضرب بعصاك البحر، وكما استيقن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ربه فجاء الفرج، قال: (ما بالك يا أبا بكر باثنين الله ثالثهما؟ لا تحزن إن الله معنا) معية تسديد! معية توفيق! معية لا تكون إلا للمؤمنين الخالصين المخلصين المتقين، فقال أبو بكر: (إن القوم سيروننا.
فقال: لا تحزن إن الله معنا).
وهذه كانت فضيلة أيما فضيلة لـ أبي بكر رضي الله عنه وأرضاه، حيث إن رسول الله يأمر الصحابة بأسرهم أن يهاجروا، وأبو بكر يأتي فيقول: (أهاجر يا رسول الله؟! ورسول الله يقول: انتظر لعل الله يجعل لك صحبة) وهو يختبئ أبا بكر لنفسه صلى الله عليه وسلم.
جاء في البخاري ومسلم عن أنس بن مالك رضي الله عنه وأرضاه عن أبي بكر قال: (قلت للنبي صلى الله عليه وسلم وأنا في الغار: لو أن أحدهم نظر تحت قدميه لأبصرنا؛ فقال: ما ظنك باثنين الله ثالثهما) ولا نقول هذا كما يقول أهل التصوف الذين يتنطعون ويقولون: الولاية تقدم على النبوة؛ لأنهم يقولون: الخضر ولي، وموسى نبي واتبع الخضر، وهنا أيضاً يقولون: أبو بكر قد فزع وجزع أن الناس قد يروه، فقال: لو نظر أحدهم تحت قدميه لرآنا، فقالوا: ثبته رسول الله، انظروا الولاية والنبوة! ثم جاء رسول الله في غزوة بدر فقام يبتهل ويقول: (اللهم انصر هذه العصابة، اللهم إن تهلك هذه العصابة فلن تعبد بعد اليوم، ثم قال: اللهم نصرك الذي وعدتني! اللهم أنجز لي ما وعدتني! فقام أبو بكر وقال: يا رسول الله! والله إن الله سينجز لك ما وعدك) فقالوا: هذه بتلك، ثبت أبو بكر رسول الله! عموا وصموا، وعليهم من الله ما يستحقون! لا يعلمون قدر رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولون: هذه بتلك! ويقولون: قد ثبت أبو بكر رسول الله في غزوة بدر وثبته رسول الله في الغار، بل في الثنتين؛ فإن رسول الله له المنة العظمى على أبي بكر رضي الله عنه وأرضاه، ولما جزع أبو بكر فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد ثبته بثبات الله له سبحانه جل في علاه.