للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

ودخل عليه عمر - رضي الله عنه -، فرآه مضطجعاً على حصير قد أثر في جنبه، وألقى ببصره في خزانة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فإذا فيها قبضةٌ من شعير، نحو الصاع، وقبضة أخرى من ورق الشجر في ناحية الغرفة.

قال عمر: فابتدرتْ عيناي بالبكاء. فقال - صلى الله عليه وسلم -: ((ما يبكيك يا ابن الخطاب؟)) قلت: يا نبي الله، وما لي لا أبكي، وهذا الحصير قد أثر في جنبك، وهذه خزانتك لا أرى فيها إلا ما أرى! وذاك قيصر وكسرى في الثمار والأنهار، وأنتَ رسولُ الله وصفوتُه، وهذه خزانتك!

فقال: ((يا ابن الخطاب، ألا ترضى أن تكون لنا الآخرة، ولهم الدنيا؟)) قلت: بلى. (١)

ودخلت امرأة أنصارية بيته - صلى الله عليه وسلم -، فرأت فراشه مثنية، فانطلقت، فبعثت بفراش فيه صوف إلى بيت النبي - صلى الله عليه وسلم -، فلما رآه قال: ((رُدِّيه يا عائشة، فوالله لو شئتُ لأجرى الله عليّ جبال الذهب والفضة)). قالت عائشة: فرددته. (٢)

لقد كان - صلى الله عليه وسلم - أزهد الناس في الدنيا، ممتثلاً أمرَ ربه الذي أمره أن يعيش عيشة الكفاف والزهد، وأمره أن يخير نساءه بين حياة الزهد معه وبين تسريحهن إلى بيوت أهلهن، فاخترن جميعاً رضي الله عنهن البقاء معه على هذه الحال.

تقول عائشة: لما أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بتخيير أزواجه بدأ بي، فقال: ((إني ذاكر لك أمراً، فلا عليك أن لا تعجلي حتى تستأمري أبويك)) ...

ثم قال: إن الله عز وجل قال: {يا أيها النبي قل لأزواجك إن كنتن تردن الحياة الدنيا وزينتها فتعالين أمتعكن وأسرحكن سراحاً جميلاً - وإن كنتن تردن الله ورسوله والدار الآخرة فإن الله أعد للمحسنات منكن أجراً عظيماً} (الأحزاب: ٢٨ - ٢٩).

قالت: فقلتُ: في أي هذا أستأمرُ أبويَّ؟ فإني أريد اللهَ ورسولَه والدارَ الآخرة.

قالت: ثم فعل أزواجُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مثلَ ما فعلتُ. (٣)


(١) رواه البخاري ح (٤٩١٣)، ومسلم ح (١٤٧٩)، واللفظ له.
(٢) رواه البيهقي في الشعب ح (١٤٤٩)، وأحمد في الزهد ح (٧٧)، وحسنه الألباني في صحيح الترمذي ح (٣٢٨٧).
(٣) رواه البخاري ح (٤٧٨٦)، ومسلم ح (١٤٧٥) واللفظ له.

<<  <   >  >>