[١٢٧- حد السرقة]
الرد على الشبهة:
إن النظام الإسلامى كلٌ متكامل، فلا تفهم حكمة الجزئيات التشريعية فيه حق فهمها إلا أن ينظر فى طبيعة النظام وأصوله ومبادئه، كذلك لا تصلح هذه الجزئيات فيه للتطبيق إلا أن يؤخذ النظام كاملاً ويعمل به جملة واحدة هذا بصفة عامة.
أما بالنسبة لحد السرقة:
فإن الإسلام يقرر حق كل فرد فى الحياة وحقه فى كل الوسائل لحفظ حياته، ومن حق كل إنسان أن يحصل على هذه الوسائل:
أولاً عن طريق العمل مادام قادراً على العمل، فإن لم يستطع أن يحصِّل أسباب الحياة فعلى المجتمع المسلم أن يوفر له ما يحفظ حياته أولاً من النفقة التى تفرض له شرعاً على القادرين فى أسرته.
ثانياً على القادرين من أهل محلته.
ثالثاً من بيت مال المسلمين من حقه المفروض له فى الزكاة فى نظام تكافلى للرعاية الاجتماعية والأمن الاجتماعى.
والإسلام كذلك يتشدد فى تحديد وسائل جمع المال فلا تقوم الملكية الفردية فيه إلا على حلال، ومن ثم لا تثير الملكية الفردية فى المجتمع المسلم أحقاد الذين لا يملكون حيث يمكن لكل أحد أن يصبح غنيًّا بالوسائل المشروعة المتاحة والسوق التنافسية الشريفة. والإسلام يربى ضمائر الناس وأخلاقهم، فيجعل تفكيرهم يتجه إلى العمل والكسب لا إلى السرقة، وبذلك يحفظ مصالح الفرد والمجتمع معاً.
إذن فلماذا يسرق السارق فى ظل هذا النظام؟
إنه لا يسرق إلا للطمع فى الثراء من غير طريق العمل، والثراء لا يطلب من هذا الوجه الذى يروع الجماعة المسلمة فى دار الإسلام، ويحرمها الطمأنينة التى من حقها أن تستمتع بها، ويحرم أصحاب المال الحلال أن يطمئنوا على مالهم الحلال.
فإذا سرق إنسان بعد هذا فإنه لا يسرق وله عذر، ولا ينبغى لأحد أن يرأف به متى ثبت عليه الجريمة وأحيل أمره إلى النظام.
ونفس الإنسان فطرت على حب المال ولعل هذا هو الذى يدفع معظم الناس إلى العمل والكد. والإسلام دائماً يقوّم دوافع النفس حتى تنضبط إما بالترغيب أو بالترهيب. من هنا حض الإسلام على الكسب الحلال ورغّب فيه ورهّب من السرقة بهذه العقوبة، حتى يستقيم المجتمع بما فيه من بار وفاجر. يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم [إن الله ليدع بالسلطان ما لا يدع بالقرآن] .
ولما كان قطع يد السارق يفضحه ويسمه بسمة السرقة ويطلع الناس على ما كان منه. فقد أقام الإسلام حراسة على من يتهم بالسرقة، فلا تقطع يده مع وجود شبهة فى أنه سرق كما لا تقطع يده فى الشىء المسروق إذا كان تافهاً لا يعتد به، أو كان فى غير حرز بل إن السارق فى تلك الحالة يعزر بالضرب أو الحبس، ولا تقطع يده.
ومن تلك الضوابط التى وضعتها الشريعة لإقامة حد القطع على السارق:
أولاً: أن يكون المسروق شيئاً ذا قيمة أى أن له اعتباراً اقتصاديٍّا فى حياة الناس. عن السيدة عائشة ـ رضى الله عنها ـ عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال: [تقطع اليد ـ أى يد السارق ـ بربع دينار فصاعداً] (١) .
ثانياً: أن يكون المسروق محروزاً، أى محفوظاً فى حرز.
ثالثاً: أن ما أخذ للأكل بالفم من التمر فهذا لا قطع فيه ولا تعزير.
رابعاً: السرقة فى أوقات المجاعات لا قطع فيها ولذلك أبطل عمر ـ رضى الله عنه ـ القطع فى عام الرمادة حينما عمت المجاعة.
خامساً: العبد إذا سرق شىء ينظر هل سيده يطعمه أم لا؟ فإن كان لا، غرم سيده ضعف ثمن المسروق كما فعل سيدنا عمر بن الخطاب ـ رضى الله عنه ـ فى غلمان ابن حاطب بن أبى بلتعة حينما سرقوا ناقة رجل من مزينة فقد أمر بقطعهم ولكن حين تبين له أن سيدهم يجيعهم درأ عنهم الحد وغرم سيدهم ضعف ثمن الناقة تأديباً له.
والقاعدة أن الحدود تُدْرَء بالشبهات.
وهكذا ينبغى أن تفهم حدود الإسلام فى ظل نظامه المتكامل الذى يتخذ أسباب الوقاية قبل أن يتخذ أسباب العقوبة.
فالحدود تمنع من وقوع الجريمة ولذلك نرى على مر التاريخ الإسلامى وعلى مساحة واسعة من بلاد المسلمين أن حد السرقة لم يطبق إلا فى أضيق الحدود وبعدد محدود جداً لا يتجاوز العشرات مع كل هذه الملايين من البشر حيث استقر فى وجدان المسلمين أن السرقة جريمة من الجرائم السيئة التى تهدد الأمن الاجتماعى والمجتمع فى ذاته بحيث تستحق مثل هذه العقوبة البدنية التى تشبه عقوبة الإعدام وعلى قدر عظم الذنب والجرم يكون عظم العقاب.
وبعض المعاصرين ينطلقون من نموذج معرفى آخر يقدم بدن الإنسان فى ذاته بغض النظر عن أفعاله وجرائمه. وقد خفى عليهم كل هدى سليم ولا حول ولا قوة إلا بالله العلى العظيم.
(١) رواه أبو داود.