فلما تقابلت هاتان القاعدتان في العقل المجرد كان طبيعيًّا أن يختار مثبتو النبوات - ومنهم الأشاعرة - القاعدة الأولى.
لكننا لو ابتعدنا عن هذا المنهج العقلي التجريدي وقوالبه الجامدة، ونظرنا إلى القضية من زاوية العقل بمفهومه الفطري الصحيح الذي أوضحناه في (السمعيات)، فلن نجد أي تعارض مطلقًا بين المنزلة العظيمة للأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم، وبين وقوعهم في ذنوب أو أخطاء تتعلق بها حِكَم عظيمة، مع الإيمان بأنهم لا يُقَرُّون عليها من الله.
ولو لم يكن من هذه الحِكَم إلا إثبات بشريتهم، وإثبات تلقِّيهم عن الله عز وجل لا عن أنفسهم، وإظهار عبوديتهم لله في مقام الإنابة والتوبة، كما أظهروها في مقام الانقياد والتسليم، فضلًا عن الحكم التشريعية والتربوية، لكفى!!.
يتضح لك هذا إذا علمت أن القواعد الشرعية تقبل الاستثناء والتخصيص دون أن يقدح ذلك فيها، بخلاف القواعد العقلية - كقوانين الرياضيات، والقضايا المنطقية الكلية - فإنه يكفي لإبطالها وجود جزئيةٍ واحدةٍ لا تنطبق عليها.
والعقول الفطرية شاهدة بهذا، وليك هذا المثال للتقريب فقط: لو اشتهر عن رجل من الناس أنه غاية في الكرم، لا يرد سائلًا، ولا يبخل على أحدٍ قط، ثم ثبت بالخبر الصادق أنه رد سائلًا، ولم يعطه شيئًا، فهل يعني هذا بطلان اتصافه بالكرم، أو يقدح في أصل الصفة؟ أم الأقرب للعقول تخصيص ذلك بتلك الواقعة لسبب ما؟ لأنه إنما استحق