فهذا المعنى الذي غزاه أبو تمام، وقد نطق به النابغة بعينه؛ فلو لزم أبا تمامٍ خطأ في هذا للزم النابغة، لأنه اعتذر إلى النعمان من ذهابه إلى آل جفنة ولم يذمهم، ولكنه فضله عليهم وشكرهم فقال:
ولكنَّني كنتُ امرءاً لَي جانِبٌ ... من الأرضِ فيه مُسْتَرادٌ ومُطْلَبُ
مُلوكٌ وإخوانٌ إذا ما أَتيتُهُمْ ... أُحَكَّمُ في أَموالِهِمْ وأُقَرَّبُ
أما ترى كيف مدحهم ثم قال:
كَفِعْلِكَ في قَوْمٍ أراكَ اصطنْعتَهمُ ... فلم تَرهُمْ في شُكْرِ ذلكَ أَذْنَبُوا
وهذا أحسن معارضةٍ وأوضح حجةٍ. يقول: لا تعب شكري لهؤلاء عندك، كما أنك إذا أحسنت إلى قومٍ فشكروك عند أعدائك، فليس ذلك بذنبٍ لهم، ثم فضله عليهم فقال:
ألم تَرَ أنّ اللهَ أَعْطاكَ سُورَةً ... تَرى كُلَّ مَلْكٍ دُونَها يَتَذَبْذَبُ
بأنك شَمْسٌ والملوكُ كَواكِبٌ ... إذا طَلَعتْ لم يَبْدُ منهُنَّ كوكَبُ
وهذا مفسر بأشياء تؤول إلى معنى واحدٍ وهو: فضلك عليهم كفضل الشمس على الكواكب. وقيل: أراد أنك ما صلحت لي لم أحتج إلى هؤلاء وإن كان فيهم فضل، كما أن من أضاءت له الشمس لم يحتج إلى انتظار ضوء الكواكب.
فحدثني القاسم بن إسماعيل قال، سمعت إبراهيم بن العباس يقول: لو أراد كاتب بليغ أن ينثر من هذه المعاني ما نظمه النابغة ما جاء به إلا في أضعاف كلامه، وكان يفضل هذا الشعر على جميع الأشعار. وقد سبق النابغة إلى هذا شعراء كندة فقال رجل يمدح عمرو بن هندٍ من كلمة:
تكادُ تَمِيدُ الأرضُ بالناسٍ أنْ رأَوْا ... لَعمْرِو بن هندٍ عُصْبَةً وهُو عَاتبُ
هو الشمسُ وافتْ يومَ سعدٍ فأفضَلتْ ... على كلِّ ضَوْءٍ والملوكُ كواكبُ
أنشدها أبو محلم. وقد أتى أبو تمام بمعنى قول النابغة الذي فسره إبراهيم بن العباس نقلاً إلا أنه في الغزل:
وقالتْ أَتْنسَى البدرَ قلتُ تجلُّداً ... إذا الشمسُ لم تَغْرُبْ فَلاَ طَلَعَ البَدْرُ
فهذا الذي أراده أبو تمام، وقال النجاشي:
نِعمَ الفتى أنتَ إلاّ أنّ بيْنَكُما ... كما تفاضَلَ ضوءُ الشمسِ والقمرُ
وأنشد أبو محلم لصفية الباهلية، وفيه غناء للغريض فيما أظن:
أَخْنَى عَلَى مالكٍ رَيبُ الزمانِ وهَلْ ... يُبْقِى الزمانُ على شيءٍ ولا يَذَرُ
كُنَّا كأنجَمِ لَيلٍ بينَها قَمَرٌ ... يَجْلُو الدُّجَى فَهَوَى من بيننا القَمَرُ
فهذا كلام أبي تمام ومعناه بعينه. وقال جرير يرثي الوليد بن عبد الملك:
إنَّ الخليفةَ قد وَارتْ شَمائلَهُ ... غبراءُ مَلحُودَةٌ في جُولِها زَوَرُ
أَمْسَى بَنْوه وقد جَلَّتْ مُصِيبتهُمْ ... مِثلَ النجومِ هَوَى مِنْ بَيْنِها القمرُ
أفترى جريراً أراد أن يهجو الوليد، أو يقول إن بنيه زادوا بموته؟ وقال نصيب فأخذ معنى قول النابغة بعينه:
هُوَ البدرُ والناسُ الكواكبُ حَوْلَهُ ... وهلْ تُشْبِهُ البدرَ المضئَ الكواكبُ؟
ثم قالوا: فهلا قال كما قال الخريمي:
إذا قمرٌ منهم تغوَّرَ أو خَبَا ... بَدَا قَمَرٌ في جانبِ الأُفْقِ يلمعُ
فيجب على هذا أن يقال له: هلا قال الذي يقول:
عَفَتِ الديارُ محلُّها فمقامُها
ألا هُبِّي بصَحْنِكِ فاصْبَحيِنا
وهلا قال امرؤ القيس مكان:
قفا نبكِ من ذكرى حبيبٍ ومنزلِ
لخوْلةَ أطلالٌ بُبرقَةٍ ثَهمَدِ
لأن المعنى الذي أراده أبو تمام ليس ما أراد الخريمي: لأن أبا تمام قصد التفضيل في السؤدد، والخريمي أراد التسوية فيه، وأبو تمام يقول: مات سيد وقام سيد دونه، والخريمي يريد: مات سيد وقام سيد مثله. فكيف يستحسن قوم ذهب هذا عليهم أن ينطقوا في الشعر بحرف بعدما فهموه؟ على أنهم أعذر عندي ممن يسمع منهم ويحكي قولهم. وإنما احتذى الخريمي قول أوس بن حجر:
إذا مُقْرَمٌ مِنَّا ذرا حَدُّنا بِهِ ... تَخمَّطَ فينا نابُ آخرَ مُقْرَمِ
وهذا كما قال أبو الطمحان القيني:
وإني من القومِ الذين هُمُ هُمُ ... إذا ماتَ منهم سيدٌ قامَ صاحبُهْ