ولا أعرف لمن صح عقله، ونفذ في علمٍ من العلوم خاطره، عذراً في مثل هذا القول، ولا أعذر من يسمعه فلا يرده عليه، اللهم إلا أن يكون يريد عيبه، والطعن عليه. ولم يعرض من يذهب هذا عليه، لعلم الشعر والكلام في معانيه وتمييز ألفاظه؟ ولعله ظن أن هذا العلم مما يقع لأفطن الناس وأذكاهم من غير تعليمٍ وتعبٍ شديد، ولزومٍ لأهله طويلٍ، فكيف لأبلدهم وأغباهم؟ وليس من أجابه طبعه إلى فنٍ من العلوم أو فنين أجابه إلى غير ذلك؛ قد كان الخليل بن أحمد أذكى العرب والعجم في وقته بإجماع أكثر الناس، فنفذ طبعه في كل شيءٍ تعاطاه، ثم شرع في الكلام فتخلفت قريحته، ووقع منه بعيداً، فأصحابه يحتجون عن شيء لفظ به إلى الآن.
وليت شعري، متى جالس هؤلاء القوم من يحسن هذا، أو أخذوا عنه، وسمعوا قوله؟ أتراهم يظنون أن من فسر غريب قصيدةٍ، أو أقام إعرابها، أحسن أن يختار جيدها، ويعرف الوسط والدون منها، ويميز ألفاظها؟ وأي أئمتهم كان يحسنه: الذي يقول وهو يهجو الأصمعي بزعمه:
إنَّي لأرفعُ نفسِي اليومَ عن رجُلٍ ... ما شكْلُهُ لِيَ شكْلُ بل هو النَّابِي
فيه المعائِبُ ما تَخْلُو وحُقَّ له ... لأنه كاذبٌ يُدْعَى لكّذَّابِ
لما التقيْنَا وقد جَدَّ الجِراءُ بنا ... جاءَ الجوادُ أمامَ الكَوْدنِ الكابِي
أو الذي يقول في مجلس بعض أجلاء الكتاب، وقد حلفه صاحب المجلس أن ينشده من شعره إن كان قال شعراً، فاستعفاه فلم يزل به إلى أن أنشده لنفسه:
مَنْ يشْتَرِي شَيْخاً بِدرْهَمَينِ ... قد شاخَ ثم دَرَّ مَرَّتْينِ
ليسَ له سِوَى ثَنِيَّتَيْنِ
فهذه أشعار أئمتهم، وما ظننت أن أحداً يتعلق بقليل الأدب يجهل هذا الذي عابوه على أبي تمام، ولا أن الله عز وجل يحوجني إلى تفسير مثله أبداً. وقد قالت الحكماء: لو سكت من لا يدري استراح الناس. وقالوا: بكثرة - لا أدري - يقل الخطأ. وقال بعض الأوائل: لقد حسنت عندي - لا أدري - حتى أردت أقولها فيما أدري. وقال بعض الشعراء:
سأَقَضْيِ بحَقٍّ يَتْبَعُ الناسُ نَهْجَهُ ... وينفَعُ أهلَ الجهلِ عند ذَوِي الخُبْرِ
إذا كنت لا تدري ولم تَسَلِ الذي ... تُرَى أنَّه يدْرِي، فكيف إِذَنْ تَدْرِي؟
وأنا مفسر ذلك إن شاء الله.
يروي عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب " صلوات الله عليه " أن رجلاً ذكر له بعض أهل الفضل فقال له: صدقت، ولكن السراج لا يضئُ بالنهار، فلم يرد " رضوان الله عليه " أن ضوء السراج ليس حالاً فيه، ولا أنه زالت عنه ذاته، ولكنه بالإضافة إلى ضوء النهار لا يضئ، ولم يطعن على ضوء النهار ولا على السراج، ولكنه قال: فاضل وأفضل منه، وقال الشاعر وأحسن:
أصفراء كان الوُدُّ مِنكِ مُباحَا ... ليالَي كان الهجْر منكِ مُزَاحَا
وكُنَّ جوارِي الحيِّ إذْ كنتِ فيهمِ ... قِباحاً، فلما غِبْتِ صْرنَ مِلاَحاَ
وما أراد إلا تفضيلها، ولم يطعن على أحد، والقباح لا يصرن ملاحاً في لحظةٍ، ولكنه أراد أنهن ملاح، وهي أملح منهن، فإذا اجتمعن كن دونها. وقال إبراهيم بن العباس الصولي:
ما كُنْتِ فيهِنَّ إلاَّ كُنْتِ واسِطَةً ... وكُنَّ دُونَكِ يُمْنَاهَا ويُسْراهَا
أنشدنا أبو العباس أحمد بن يحيى عن إبراهيم بن العباس، وأملي شعر إبراهيم إملاءً، وكان يستجيد هذا، ولم يرد إبراهيم أن يذمهن وهن معها في نظم ولكنه فضلها؛ فأراد أبو تمام تفضيله عليهم وإن كانوا أفاضل. وليس ضياء البدر يذهب بالكواكب جملةً، ولا ينقل طبعها ولكن المستضئ به أبصر من المستضئ بالكواكب، فإذا فقد البدر استضاء بهذه وهي دونه، فكأن أبا تمام قال: إن ذهب البدر منهم فقد بقيت فيهم كواكب.
وقد أحسن الذي يقول:
ولَسْتُ بشاتمٍ كَعْباً ولكنْ ... على كعبٍ وشاعرها السلامُ
بنَانَا اللهُ فوق بِنا أَبيِنَا ... كما يُبْنَى على الثَّبِج السَّنَامُ
وكائنْ في المعاشِر مِن أُناسٍ ... أخُوهُمْ مِنْهمُ وهُمُ كِرامُ