للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>

حدثني محمد بن عبد الله التميمي أبو عبد الله الحزنبل قال، حدثني سعيد بن جابر الكرخي قال، حدثني أبي قال: حضرت أبا تمام، وقد أنشد أبا دلف قصيدته البائية التي امتدحه بها، وعنده جماعة من أشراف العرب والعجم، التي أولها:

عَلَى مِثْلهِا من أَرْبُعٍ ومَلاعبِ ... أُذيِلَتْ مَصُوناتُ الدُّموعِ السَّواكبِ

أَمَيْدانَ لَهْوِى مَنْ أَتَاحَ لكَ الْبِلَى ... فأَصْبَحتَ مَيْدانَ الصَّبَا والجَنَائبِ

فلما بلغ إلى قوله:

إذَا العيِسُ لاقَتْ بي أبا دُلَفٍ فقدْ ... تقَطّع ما بيْنِي وَبيْنَ الَّنوائِبِ

إذا ما غَدا أَغْدَى كَريَمةَ مَالِهِ ... هَدِيّاً ولو زُفَّتْ لألأَمِ خَاطِبِ

وأَحْسَنُ مِنْ نَوْرٍ يُفتِّحُهُ الَّندَى ... بَيَاضُ العَطَايا في سَوَادِ المَطالبِ

إذا أَلْجَمَتْ يَوْماً لُجَيْمٌ وَحَوْلهَابنو الحِصْنِ نَجْلُ المُحصَنَاتِ النَّجائبِ

فإنَّ المنَايَا والصَّوَارمَ والقَنا ... أَقارِبُهم في الرَّوْع دُونَ الأَقَارِبِ

إذا افْتَخَرتْ يَوْماً تَمِيمٌ بِقَوْسِها ... وزَادَتْ على ما وَطَّدَتْ مِنْ مَنَاقبِ

فأَنْتُمْ بِذِي قَارٍ أَمَالَتْ سُيُوفُكُمْعُرُوشَ الذينَ اسْتَرهَنُوا قَوْسَ حَاجِبِ

مَحاسِنُ منْ مَجْدٍ مَتَى يَقْرِنُوا بِهَا ... مَحَاسِنَ أَقْوَامٍ تَكُنْ كاَلْمعَائِبِ

مكارمُ لَجَّتْ في عُلُوّ كأَنَّما ... تُحَاوِلُ ثَأراً عِنْدَ بَعْضِ الكَوَاكِبِ

أخذ هذا علي بن الجهم فوصف الفوارة فقال:

وفَوَّارَةٍ ثَأْرُها في السَّمَا ... ءِ فَلَيْسَتْ تُقَصِّرُ عَنْ ثَارِها

قال، فقال أبو دلف: يا معشر ربيعة ما مدحتم بمثل هذا الشعر قط، فما عندكم لقائله؟ قال: فبادروه بمطارفهم وعمائمهم يرمون بها إليه، فقال أبو دلف: قد قبلها وأعاركم لبسها، وسأنوب في ثوابه عنكم، تمم يا أبا تمام، فلما بلغ إلى قوله:

ولو كان يَفْنَى الشعرُ أَفنْاهُ ما قَرَتْ ... حياضُك منه في العُصورِ الذَّواهِبِ

ولكنَّهُ صَوْبُ العقولِ إذا انْثَنَتْ ... سحائبُ منها أُعقِبَتْ بسحائبِ

فقال أبو دلف: إدفعوا إلى أبي تمامٍ خمسين ألف درهمٍ، ووالله إنها لدون شعره، ثم قال له: ما مثل هذا القول إلا ما رثيت به محمد بن حميد، قال: وأي ذلك أراد الأمير؟ قال قولك:

وما ماتَ حتى ماتَ مَضْرِبُ سيفه ... من الضَّربِ واعتلَّتْ عليه القَنا السُّمْرُ

وقد كان فَوْتُ الموْتِ سهلاً فردَّه ... إليه الحَفَاظُ المُرُّ والخُلُقُ الوَعْرُ

فأَثْبتَ في مُسْتَنُقِعِ الموْتِ رِجْلَهُ ... وقال لها: من تحتِ أَخْمُصِكِ الحشْرُ

غَدَا غَدْوَةً والحمدُ حَشْوُ رِدائه ... فلمْ ينصرفْ إلاَ وَأَكْفانُه الأجْرُ

كأنَّ بني نَبْهانَ يومَ وفاتِه ... نُجومُ سماءٍ خَرَّ من بيْنِها البَدْرُ

يُعَزَّوْنَ عن ثَاوٍ تُعزَّى به العُلاَ ... ويَبْكِي عليه الجُودً والبأسُ والشِّعرُ

وددت والله أنها لك فيَّ! فقال: بل أفدي الأمير بنفسي وأهلي، وأكون المقدم قبله، فقال له: لم يمت من رثي بمثل هذا الشعر.

قال أبو بكر: ومن أعجب العجب، وأفظع المنكر، أن قوماً عابوا قوله:

كأنَّ بَني نَبْهانَ يومَ وَفاتِه ... نُجومُ سماءٍ خرَّ مِنْ بَيْنِها البدرُ

فقالوا: أراد أن يمدحه فهجاه، كأن أهله كانوا خاملين بحياته، فلما مات أضاءوا بموته، وقالوا: كان يجب أن يقول كما قال الخريمي:

إذا قمرٌ منه تَغَوَّرَ أوْ خَبَا ... بَدا قمرٌ في جانبِ الأُفْقِ يَلْمَعُ

<<  <   >  >>