للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>

لأمرٍ عليِهمْ أَنْ تَتِمَّ صُدُورُه ... وليْسَ عليِهمْ أن تَتمَّ عواقبُهْ

على كلِّ رَوَّادِ المِلاَطِ تَهَدَّمَتْ ... عريكتُه العلياءُ وانضمَّ حالُبهْ

رعتْهُ الفيافِِي بعد ما كان حقْبةً ... رعاهَا وماءُ الروضِ ينْهَلُّ ساكِبهْ

ويروى - رعته الصحارى -، ويروى - رعته الفيافي - جمع فيفاة، فصاح الشعراء بالأمير أبي العباس: ما يستحق مثل هذا الشعر إلا الأمير أعزه الله، وقال شاعر منهم يعرف بالرياحي: لي عند الأمير - أعزه الله - جائزة وعدني بها، وهي له جزاءً عن قوله، فقال الأمير: بل نضعفها لك، ونقوم بالواجب له. فلما فرغ من القصيدة نثر عليه ألف دينار، فلقطها الغلمان ولم يمس منها شيئاً، فوجد عليه الأمير وقال: يترفع عن بري، ويتهاون بما أكرمته به! قال فما بلغ بعد ذلك ما أراد منه.

قوله: " وركبٍ كأَطرافِ الأسِنَّةِ "، مأخوذ من قول البعيث:

أطافَتْ بشُعْثٍ كالأسِنَّةِ هُجَّدٍ ... بخاشعِة الأصْوَاءِ غُبْرٍ صُحُونُها

وهذان البيتان:

وركْبٍ كأَطْرافِ الأسِنَّةِ عَرَّسُوا ... عَلَى مِثْلِها والّليْلُ داجٍ غَياهِبُهْ

لأَمْرٍ عَليْهِمْ أنْ تَتِمَّ صُدُورُهُ ... ولَيْسَ عليِهِمْ أنْ تَتِمَّ عَوَاقِبُهْ

فهما منقولان من قول الشاعر:

غلامُ وَغىً تَقَحَّمها فأَبْلَى ... فخان بلاءَهُ دهرٌ خَؤُون

فكان على الفتى الإقدامُ فيها ... وليس عليه ما جنَتِ المنُونُ

حدثنا محمد بن يزيد الأزدي قال، سمعت الحسن بن رجاءٍ يقول: ما رأيت أحداً قط أعلم بجيد الشعر قديمة وحديثة من أبي تمام.

حدثني الحسين بن إسحاق قال، سمعت ابن الدقاق يقول: حضرنا مع أبي تمام وهو ينتخب أشعار المحدثين، فمر به شعر محمد بن أبي عيينة المطبوع، الذي يهجو به خالداً، فنظر فيه ورمى به، وقال: هذا كله مختار. وهذا أدل دليل على علم أبي تمام بالشعر، لأن ابن عيينة أبعد الناس شبهاً به: وذلك أنه يتكلم بطبعه، ولا يكد فكره، ويخرج ألفاظه مخرج نفسه، وأبو تمام يتعب نفسه، ويكد طبعه، ويطيل فكره، ويعمل المعاني ويستنبطها؛ ولكنه قال هذا في ابن أبي عيينة، لعلمه بجيد الشعر أي نحوٍ كان.

حدثني محمد بن موسى قال سمعت الحسن بن وهب يقول: دخل أبو تمام على محمد بن عبد الملك فأنشده قصيدته التي أولها:

لهانَ علينا أن نقولَ وتفعلا

فلما بلغ إلى قوله:

وَجَدناكَ أنْدَى من رجالٍ أناملاً ... وأحسنَ في الحاجاتِ وجهاً وأجملاَ

تُضئُ إذا اسودَّ الزمانُ وبعضُهُمْ ... يرى الموتَ أن ينْهَلَّ أو يتهَلَّلاَ

وواللهِ ما آتيكَ إلا فريِضَةً ... وآتي جميعَ الناسِ إلا تنفُّلاَ

وليس امرُؤٌ في الناسِ كنتَ سلاحَهُ ... عَشٍيةَ يلَقى الحادثاتِ بأعزَلاَ

فقال له محمد: والله ما أحب بمدحك مدح غيرك لتجويدك وإبداعك، ولكنك تنغص مدحك ببذله لغير مستحقه، فقال: لسان العذر معقول وإن كان فصيحاً. ومر في القصيدة، فأمر له بخمسة آلاف درهم، وكتب إليه بعد ذلك:

رأيتُكَ سَمْحَ البيِع سَهْلاً وإنما ... يُغَالَي إذَا ما ضَنَّ بالبيِع بائعُهْ

فأما إذا هانتْ بَضَائعُ مالهِ ... فيُوشِكُ أن تَبْقَى عليه بضَائِعُهْ

هو الماءُ إن أجْمَعْتَهُ طابَ وِرْدُهُ ... ويُفْسِدُ منه أَنْ تُبَاحَ شَرائعُهْ

حدثني أبو بكر أحمد بن سعيد الطائي قال: كان ابن عبد كان وإسماعيل بن القاسم - وهما علمان من أعلام الكتاب والأدب - يقولان: البحتري أشعر من أبي تمام، قال: فذكرت ذلك للبحتري، فقال لي: لا تفعل يا ابن عم، فو الله ما أكلت الخبز إلا به.

حدثنا عبد الله بن الحسين، قال حدثني البحتري قال: سمعت أبا تمام يقول: أول شعر قلته

تَقَيِ جَمَحَاتي لستُ طوعَ مؤنِّبي

ومدحت بها عياش بن لهيعة، فأعطاني خمسة آلاف درهم.

<<  <   >  >>