من عهدِ إِسكندرٍ أو قبلَ ذلكَ قَدْ ... شابتْ نواصِي الليالي وَهيْ لم تَشِبِ
بِكْرٌ فما افتَرَعَتْها كفُّ حادثَةٍ ... ولا ترقَّتْ إليها هِمَّةُ النُّوَبِ
جَرَى لها الفالُ برْحاً يومَ أَنْقِرَةٍ ... إذْ غُودِرَتْ وَحْشَةَ السَّاحات والرَّحَبِ
لما رأتْ أختَها بالأمسِ قد خَرِبتْ ... كانَ الخرابُ لهَا أَعْدَي من الجربِ
لقد تَركْتَ أميرَ المؤمنينَ بها ... للِنَّارِ يَوْماً ذليلَ الصَّخرِ والخشَبِ
غادرتَ فِيهَا بَهيمَ الليل وَهْو ضُحًى ... يَشُلُّهُ وَسْطَهَا صُبْحٌ من اللَّهَبِ
حتى كأَنَّ جَلاَبيبَ الدُّجَى رَغَبِتْ ... عنْ لَوْنِها وكأنَّ الشّمسَ لم تَغبِ
ضوءٌ من النارِ والظَّلماء عاكفةٌ ... وظُلمةٌ من دخانٍ في ضُحىً شَحِبِ
قال أبو بكر: كذا قال أبو مالك - ضوء -، والرواية - صبح -
فالشمسُ طالعةٌ من ذا وقد أَفَلَتْ ... والشمسُ واجِبةٌ مِنْ ذا ولم تَجِبِ
ما رَبْعُ مَيَّةَ مَعْمُوراً يُطيفُ به ... غَيْلانُ أَبْهَى رُبىً من ربعها الخرِبِ
ولا الخدودُ ولَوْ أُدْمِينَ من خجَلٍ ... أَشْهَى إلى ناظرٍ من خَدِّها التَّرِبِ
سماجةٌ غَنَيِتْ منها العيونُ بها ... عن كلِّ حُسنٍ بَدا أو منظَرِ عَجبِ
وحُسْنُ مُنقلَبٍ تبقَى عواقبُهُ ... جاءتْ بشاشَتُه من سُوءِ مُنْقَلَبِ
تدبيرُ معتصمٍ باللهِ منتقمٍ ... لله مُرْتقبٍ في الله مُرْتَغبِ
لم يَرْمِ قَوماً ولم يَنْهَدْ إلى بلدٍ ... إلا تقدَّمَهُ جيشٌ منَ الرُّعُبِ
لو لم يَقُدْ جَحْفَلاً يوْمَ الوَغَى لَغَدا ... من نَفْسِه وَحْدَها في جَحفلٍ لِجبِ
لما رأى الحربَ رأىَ العينِتَوْفَلِسٌوالحرْبُ مشتقةُ المعنَى من الحَرَبِ
ولي وقد أَلْجمَ الخَطِّىُّ مَنْطقَهُ ... بسَكْتَةٍ تحتَها الأحْشَاءُ في صخَبِ
بَصُرْتَ بالراحةِ الكُبرى فلم تَرَها ... تُنالُ إلا عَلَى جِسْرٍ من التّعَبِ
إن كانَ بينَ مرورِ الدهرِ من رحمٍ ... مَوْصُولةٍ وذِمامٍ غيرِ مُنْقَضِبِ
فبينَ أيامِكَ اللائِي نُصِرْتَ بِها ... وبين أيامِ بدرٍ أقربُ النَّسَبِ
ثم قال: هل وقع في لفظةٍ من هذا الشعر خلل؟ كان يمر للقدماء بيتان يستحسنان في قصيدة فيجلون بذلك، وهذا كله بديع جيد.
قال أبو أحمد: وما رأيت أحداً في نفس أحدٍ أجل من أبي تمام في نفس الحسن بن وهب. قال: وكان الحسن يحفظ أكثر شعر أبي تمام كأنه يختار من القصيدة ما يحفظه.
وقيل لأبي تمام: مدحت دينار بن يزيد! فقال: ما أردت بمدحه إلا أن أكشف شعر علي بن جبلة فيه، فقلت:
مَهاةَ النَّقَا لولاَ الشَّوَى والمآبِضُ
ولم يمدحه بغيرها.
حدثني به علي بن إسماعيل قال، حدثني علي ابن العباس الرومي قال، حدثني مثقال قال: دخلت على أبي تمام وقد عمل شعراً لم أسمع أحسن منه، وفي الأبيات بيت واحد ليس كسائرها، وعلم أني قد وقفت على البيت، فقلت له: لو أسقطت هذا البيت! فضحك وقال لي: أتراك أعلم بهذا مني؟ إنما مثل هذا مثل رجل له بنون جماعة، كلهم أديب جميل متقدم، فيهم واحد قبيح متخلف، فهو يعرف أمره ويرى مكانه، ولا يشتهي أن يموت، ولهذه العلة وقع مثل هذا في أشعار الناس.
حدثنا أبو أحمد عبيد الله بن عبد الله بن طاهر قال: لما قدم أبو تمام إلى خراسان اجتمع الشعراء إليه فقالوا: نسمع شعر هذا العراقي، فسألوه أن ينشدهم، فقال: قد وعدني الأمير أن أنشده غداً وستسمعون، فلما دخل على عبد الله أنشده:
هُنَّ عوادِي يوسفٍ وصواحِبُهْ ... فعَزْماً فقِدْماً أدركَ السؤلَ طالبُهْ
فلما بلغ إلى قوله:
وقلْقَل نَأيٌ من خراسانَ جأشَها ... فقلتُ اطمئِنِّي أنضرُ الرَّوْضِ عازبُهْ
ورَكبٍ كأَطْرافِ الأَسِنَّةِ عَرَّسُوا ... على مِثْلِها والَّليْلُ داجٍ غَياهُبهْ