للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>

فأنشدته إياها، فلما أتمتها سر أبو سعيد بها وقال: أحسن الله إليك يا فتى، فقال له رجل في المجلس: هذا - أعزك الله - شعر لي، علقه هذا فسبقني به إليك، فتغير وجه أبي سعيد وقال: يا فتى قد كان في نسبك وقرابتك ما يكفيك أن تمت به إلينا، ولا تحمل نفسك على هذا، فقلت: هذا شعر لي أعزك الله، فقال الرجل: سبحان الله يا فتى، لا تقل هذا، ثم ابتدأ فأنشد من القصيدة أبياتا، فقال لي أبو سعيد: نحن نبلغ ما تريد، ولا تحمل نفسك على هذا فخرجت متحيراً لا أدري ما أقول، ونويت أن أسأل عن الرجل من هو؟ فما أبعدت حتى ردني أبو سعيد ثم قال: جنيت عليك فاحتمل، أتدري من هذا؟ قلت: لا، قال: هذا ابن عمك حبيب بن أوس الطائي أبو تمام، فقم إليه، فقمت إليه فعانقته، ثم أقبل يقرظني ويصف شعري، وقال: إنما مزحت معك. فلزمته بعد ذلك وكثر عجبي من سرعة حفظه.

حدثني علي بن إسماعيل قال: كنت عند البحتري فأنشدته وهو كالمفكر:

أَحْلَى الرجالِ من النساءِ مَواقعاً ... مَنْ كان أَشْبههَمُ بهنَّ خُدُودَا

فاطلب هُدُوءاً في التقلقلِ واستثرْ ... بالعيس من تحتِ السّهادِ هُجُودَا

من كل مُعْطِيةٍ على عَلَلِ السَّرَي ... وخْداً يَبيتُ النومُ فيهِ شريدَا

طلبتْ ربيعَ ربيعَةَ المُمْهَي لنا ... ووردْنَ ظِلَّ ربيعةَ الممدودَا

ذُهْلِيَّها مُرِّيَّهَا مَطَرِيَّها ... يُمْنَى يَدَيْها خالدَ بنَ يزيدَا

نسبٌ كأنَّ عليهِ من شمس الضُّحى ... نُوراً ومن فَلَقِ الصَّباح عَمُودَا

عُرْيانَ لا يَكْبُو دَليلٌ مِن عَمىً ... فيهِ ولا يَبْغِي عليه شُهودَا

شَرفٌ على أولَى الزمانِ وإنما ... خَلَقُ المَنَاسبِ أَنْ يكونَ جَديدَا

مَطَرٌ أبوك أبُو أَهِلَّةِ وَائِلٍ ... ملأَ البسيطةَ عُدَّة وعَديِدَا

وَرِثُوا الأُبُوَّةَ والحظوظَ فأصبَحُوا ... جمعُوا جُدُوداً في العُلا وجُدودَا

إِنَّ القوافَيِ والمساعَيِ لم تَزَلْ ... مِثلَ النظامِ إذا أصابَ فَريِدا

هي جوهَرٌ نَثْرٌ فإن ألَّفْتَهُ ... بالنَّظمِ صار قلائِداً وعُقودا

فقال: ما هذا؟ وهو فزع، فقلت له: ألا تعرفه؟ هذا لأبي تمام، فقال: أذكرتني والله وسررتني، لا تحسن هذا الإحسان أحد غيره.

حدثني محمد بن موسى بن حماد قال: كنت عند الحسن بن وهب، فدخل إليه أبو سليمان داود ابن الجراح كاتب أبي إسحاق إبراهيم بن العباس، فسأله عن خبره فأخبره بما أراده، ثم قال: ناظر اليوم أبو إسحاق رجلاً في دولة بني أمية ودولة بني العباس - مدها الله - فقال له الرجل: أين مثل شعراء بني أمية الذين كانوا في زمانهم؟ فقال له أبو إسحاق: إن كانت دولة بني أمية حلبة الشعراء فدولة بني هاشم حلبة الكتاب، فقال الحسن: ما يترك أبو إسحاق عصبيته للأوائل من الشعراء، والله ما كان في دولة بني أمية مثله، هلا قال: أنا أعد شعراء هذه الدولة، فعد كتاب تلك الدولة؟ ثم أقبل علينا الحسن فقال: أما البلاغة في الكتبة فما ينازع أهل هذه الدولة فيها، وأما الشعر فلا أعرف - مع كثرة مدحي له وشغفي به في قديمه ولا حديثه - أحسن من قول أبي تمام في المعتصم بالله، ولا أبدع معاني، ولا أكمل مدحاً، ولا أعذب لفظاً، ثم أنشد:

فتحُ الفُتوحِ تَعالَى أن يُحيطَ به ... نظمٌ من الشِّعرِ أو نثرٌ من الخُطَبِ

قال أبو بكر: ما سمعت " تعالى " إلا في هذا الخبر، والناس يروونه " المعلى "

فتحٌ تَفَتَّحُ أبوابُ السماءِ له ... وتَبُرزُ الأرضُ في أبرادِها القُشُبِ

يا يومَ وقعةِ عَمُّورِيَّةَ انصرفتْ ... عنكَ المُنَى حُفَّلا مَعْسُولةَ الحَلبِ

أبَقيْتَ جَدَّ بني الإسلامِ في صَعَدِ ... والمشركينَ ودَارَ الشِّركِ في صَبَبِ

أُمٌّ لُهمْ لَوْ رَجَوْا أن تُفْتَدَى جَعلُوا ... فداءَها كلَّ أَمٍّ منهمُ وأب

وبَرْزَةُ الوجهِ قد أعْيتْ رياضَتُها ... كِسْرَى وصدَّتْ صُدوداً عن أبي كرَبِ

<<  <   >  >>