وإنا لنُعِطي المشْرَفيَّةَ حقَّهَا ... فتقْطَعُ في أَيْمَانِنَا وَتَقَطَّعُ
ومن قوله أيضاً:
أَوْفَى به الدهْرُ من أحداثِه شَرَفاً ... والسَّيفُ يمِضي مِراراً ثمَّ يَنْقصِدُ
وأما قوله: " والليالي كلها أسحار " فهو من قول عبد الملك بن صالح، وسأله الرشيد: كيف ليل منبج؟ فقال: سحر كله، وقد أخذه ابن المعتز فقال:
يا رُبَّ ليلٍ سَحَرٍ كلُّه ... مُفْتَضِحِ البدْرِ عَليلِ النَّسيمْ
ولو جاز أن يصرف عن أحدٍ من الشعراء سرقة، لوجب أن يصرف عن أبي تمام لكثرة بديعه واختراعه واتكائه على نفسه، ولكن حكم النقاد للشعر، العلماء به، قد مضى بأن الشاعرين إذا تعاورا معنىً ولفظاً أو جمعاهما، أن يجعل السبق لأقدمهما سناً، وأولهما موتاً، وينسب الأخذ إلى المتأخر، لأن الأكثر كذا يقع، وإن كانا في عصرٍ الحق بأشبههما به كلاما، فإن أشكل ذلك تركوه لهما.
حدثنا عبيد الله بن عبد الله بن طاهر قال: جاءني فضل اليزيدي بشعر أبي تمام، فجعل يقرؤه علي، ويعجبني ممن جهل مقداره. فقلت له: الذين جهلوه كما قال:
لا يدهَمَنَّكَ من دهْمائِهِمْ عددٌ ... فإنَّ أكثرَهُمْ أو كُلَّهُمْ بَقَرُ
فقال لي: قد عابه جماعةُ من الرواة للشعر، فقلت: الرواة يعلمون تفسير الشعر ولا يعلمون ألفاظه، وإنما يميز هذا منهم القليل، فقال: هذه العلة في أمرهم.
وكنا عند أبي علي الحسين بن فهم، فجري ذكر أبي تمام فقال رجل: أيما أشعر: البحتري أو أبو تمام؟ فقال: سمعت بعض العلماء بالشعر - ولم يسمه - قد سئل عن مثل هذا فقال: وكيف يقاس البحتري بأبي تمام، وهو به، وكلامه منه، وليس أبو تمام بالبحتري، ولا يلتفت إلى كلامه؟.
حدثني القاسم بن إسماعيل أو ذكوان قال: سمعت عمك إبراهيم بن العباس الصولي يقول: ما اتكلت في مكاتبتي إلا على ما يجيله خاطري، ويجيش به صدري، إلا قولي: وصار ما كان يحرزهم يبرزهم، وما كان يعقلهم يعتقلهم، وقولي في رسالةٍ أخرى: فأنزلوه من معقل إلى عقال، وبدلوه آجالاً من آمال؛ فإني ألممت في قولي: " آجالاً من آمال " بقول مسلم بن الوليد:
مُوفٍ على مُهَجٍ في يومِ ذي رَهَجٍ ... كأَنه أَجَلٌ يَسْعى إلى أملِ
وفي " المعقل والعقال " بقول أبي تمام، ثم أنشد:
فإنْ باشَرَ الإِصْحَارَ فالبيضُ والقَنَا ... قِرَاهُ وأَحْوَاضُ المنَايا مَنَاهِلُهْ
وإن يَبْنِ حِيطاَناً عَلَيْهِ فإِنَّمَا ... أُولئكَ عُقَّالاَتُهُ لاَ مَعَاقِلُهْ
وإلاّ فأعْلِمْهُ بأنّكَ سَاخِطٌ ... وَدَعْهُ فَإنّ الخَوْفَ لا شَكَّ قاتِلُهْ
بِيُمْنِ أبيِ إسْحاقَ طَالَتْ يدُ الهُدَىوَقَامَتْ قَنَاةُ الدِّينِ واشْتَدَّ كَاهِلُهْ
هُوَ البَحْرُ مِنْ أَيِّ النِّواحِي أَتَيْتَهُفَلُجَّتُهُ المعرُوفُ والجُودُ سَاحِلُهْ
تَعَوَّدَ بَسْطَ الْكَفِّ حتَّى لو أنَّهُ ... ثَنَاهَا لِقَبْضٍ لَمْ تُجِبْهُ أَنَامِلُهْ
ثم قال لي: أما تسمع يا قاسم؟ قلت: بلى والله يا سيدي، قال: إنه اخترم وما استمتع بخاطره، ولا نزح ركي فكره، حتى انقطع رشاء عمره.
حدثني أبو الحسين بن السخي قال، حدثني الحسن بن عبد الله قال: سمعت إبراهيم بن العباس يقول لأبي تمام، وقد أنشده شعراً له في المعتصم: يا أبا تمام، أمراء الكلام رعية لإحسانك، فقال له أبو تمام: ذاك لأني أستضئ برأيك، وأرد شريعتك.
حدثني أبو عبد الله الحسين بن علي قال، حدثني سليمان بن وهب قال: رآني أبو تمام وأنا أكتب كتابا، فاطلع فيه ثم قال لي: يا أبا أيوب، كلامك ذوب شعري.
حدثني أحمد بن يزيد المهلبي قال: سألت أبي عن أبي تمام فقال: سمعني أبي وأنا ألاحي إنساناً في أبي تمام فقال لي: ما كان أحد من الشعراء يقدر أن يأخذ درهما واحداً في أيام أبي تمام، فلما مات أبو تمام اقتسم الشعراء ما كان يأخذه.
حدثني أبو الحسن علي بن إسماعيل قال، قال لي البحتري: أول ما رأيت أبا تمامٍ مرةً ما كنت عرفته قبلها، أني دخلت على أبي سعيد محمد بن يوسف وقد امتدحته بقصيدتي التي أولها:
أَأَفاقَ صَبٌّ من هَوىً فأُفيقَا ... أَوْ خَانَ عَهداً أو أطاعَ شفيقاَ؟