منصور فوجدت عنده عمارة بن عقيل، وكان خلا له، وهو ينشده قصيدةً له في الواثق أولها:
عرَفَ الديارَ رُسُومُها قَفْرُ ... لَعِبَتْ بها الأرْوَاحُ والقَطْرُ
فلما فرغ منها قلنا له: ما سمعنا أحسن من هذه الرائية، أحسن الله إليك يا أبا عقيل! فقال: والله لقد عصفت رائية طائيكم هذا بكل شعرٍ في لحنها، قلنا له: وما هي؟ قال: كلمته التي هجا بها الأفشين، فقال محمد بن يحيى بن الجهم: أنا أحفظها، فقال: هاتها فأنشده:
الحقُّ أَبلجُ والسيوفُ عَوَارٍ ... فَحَذَار من أَسَدِ العَرينِ حَذارِ
فقال له عمارة: أنشدنا ذكر النار، فأنشد:
ما زالَ سِرُّ الكُفْرِ بين ضُلوعِه ... حتى اصْطَلَى سِرَّ الزِّنادِ الواري
ناراً يُساورُ جسْمَهُ من حَرِّها ... لَهَبٌ كما عَصْفَرتَ نِصْفَ إزارِ
طارتْ لها شُعَلٌ يُهدّم لَفحُها ... أَرْكانَهُ هَدْماً بغيرِ غُبارِ
ففصَلْنَ منه كُلَّ مَجْمَعِ مَفصِلٍ ... وفَعلْنَ فاقرةً بكُلّ فَقَارِ
قال أبو بكر: إنما قال: وفعلن، فخص هذه اللفظة لقول الله جل وعز " تظنُّ أَنْ يُفعلَ بِها فَاقِرَةٌ "، ولقول الناس: فعل به الفواقر، أي الدواهي:
رَمَقُوا أَعَالَي جِذْعِه فكأنَّما ... وَجدْوا الهِلالَ عَشِيَّةَ الإفطار
ثم ذكر المصلبين فقال:
سُودُ اللباسِ كأنما نَسَجَتْ لُهمْ ... أَيْدِي الشُّمُوسِ مَدَارِعاً مِنْ قَارِ
بَكَرُوا وأسْرَوْا في مُتُونِ ضَوامرٍ ... قِيدَتْ لهم من مَرْبَطِ النجَّارِ
لا يبْرَحُون ومَنْ رآهُم خَالَهْم ... أبداً على سَفَرٍ من الأسْفارِ
جهِلُوا فلم يستكثِروُا مِنْ طَاعَةٍ ... مَعْروفَةٍ بِعمارَةِ الأعْمارِ
فقال عمارة: لله دره، لقد وجد ما أضلته الشعراء، حتى كأنه كان مخبوءاً له. قال محمد بن القاسم: فاعتقدت في أبي تمامٍ من ذلك اليوم أنه أشعر الناس، وما كان ذا رأيي من قبل.
حدثني أبو العباس عبد الله بن المعتز قال: جاءني محمد بن يزيد المبرد يوماً فأفضنا في ذكر أبي تمام، وسألته عنه وعن البحتري، فقال: لأبي تمام استخراجات لطيفة، ومعانٍ طريفةٌ، لا يقول مثلها البحتري، وهو صحيح الخاطر، حسن الانتزاع، وشعر البحتري أحسن استواءً، وأبو تمام يقول النادر والبارد، وهو المذهب الذي كان أعجب إلى الأصمعي، وما أشبه أبا تمام إلا بغائصٍ يخرج الدر والمخشلبة، ثم قال: والله إن لأبي تمامٍ والبحتري من المحاسن ما لو قيس بأكثر شعر الأوائل ما وجد فيه مثله. قال أبو بكر: وقول أبي العباس المبرد " ما أشبهه إلا بغائص "، فإنما أخذه من قول الأصمعي في النابغة الجعدي: تجد في شعره مطرفاً بآلاف، وكساءً بواف.
حدثني عبد الله بن المعتز قال: كان إبراهيم بن المدبر يتعصب على أبي تمام ويحطه عن رتبته، فلاحاني فيه يوماً فقلت له: أتقول هذا لمن يقول:
غَدَا الشيبُ مُختطا بفَوْدَىَّ خُطَّةُ ... سبيلُ الرَّدَى مِنها إلى الموتِ مَهْيَع
هو الزَّوْرُ يُجْفَى والمُعاشِرُ يُجتَوَى ... وذُو الإلْفِ يُقْلَى والجديدُ يُرَفَّعُ
له منظَرٌ في العينِ أَبْيضُ ناصِعٌ ... ولكنَّهُ في القلبِ أسْودُ أسْفَعُ
ولمن يقول:
فَإنْ تُرْمَ عن عُمرٍ تَدَانَى به المَدَى ... فَخَانَكَ حتَّى لم يَجِدْ فيكَ مَنْزَعَا
فما كنْتَ إلاَّ السَّيْفَ لاَقَى ضرِيبةً ... فَقَطَّعَها ثمَّ انثْنَى فَتَقَطَّعَا
ولمن يقول:
خَشَعُوا لصَوْلتِكَ التي هي عندهُم ... كالموتِ يأتِي ليسَ فيه عارُ
فالمشيُ هَمْسٌ، والنداءُ إشارةٌ ... خَوْفَ انتقامِكَ، والحديثُ سِرار
أيامُنا مَصْقُولةٌ أطْرَافُها ... بِكَ واللياليِ كلُّها أَسْحارً
تنْدَى عُفَاتُكَ للعُفَاةِ وتغَتدِي ... رُفَقاً إلى زُوَّارِك الزُّوَّارُ
قال: وأنشدته أيضاً غير ذلك، فكأني - والله - ألقمته حجراًَ! قال أبو بكر: أما قوله " فقطعها ثم انثنى فتقطعا " فهو مأخوذ من قول البعيث: