شَرِبتَ الدُّهْنَ ثم خرجتَ منهُ ... خُروجَ المَشْرَفِيِّ من الصِّقالِ
تكشَّفَ عنكَ ما عايْنتَ منهُ ... كَماَ انكَشَفَ الغَمامُ عنِ الهِلالِ
لطُولِ سَلاَمةٍ ولطولِ عُمْرٍ ... بَلَغْتَ بكَ الطِّوَالَ من اللَّياليِ
وَقَدْ أَهْدَيتُ رَيْحَاناً طَرِيفاً ... بِهِ حاجَيْتُ مُسْتَمعِي مقَالِي
وما هو غَيْرُ حاءٍ بَعْدَ ياءٍ ... تُخُبِّرَ بَعْدَ ميمٍ قَبْلَ دالِ
ورَيْحَانُ النَّباتِ يعيشُ يَوْماً ... وليسَ يمُوتُ رَيْحَان المقَالِ
ولَمْ تكُ مُؤْثِراً رَيْحَانَ شَمِ ... عَلَى رَيْحَانِ أَسْمَاعِ الرِّجالِ
ولي أبياتٌ من قصيدة مدحت بها صديقاً لي، وصفت فيها الثياب، وما علمت أن أحداً وصفها حتى قرأت شعر أبي تمام، وقد أحسن فيه غاية الإحسان. قلت:
أين الدَّبِيقُّيِ الذي مَدَّتْ بِهِ ... أيدي النَّسَاءِ فجاءَ طَوْعَ المِغْزَلِ
غَمَضَتْ حَواشِيهِ لدِقَّةِ نَسْجِه ... مِنْ غَيْرِ تَضْليعٍ وغَيْرِ تَسَلْسُلِ
والثَّوْبُ قَدْ يَحْكِي بِدِقّةِ نَسْجِهِ ... نَسْجَ العناكِبِ بالمكانِ المُهْمَلِ
شُغِلَتْ به هِمَمُ المُلوكِ وأُمْهِلَتْ ... صُنَّاعُه فيه ولم تُسْتَعْجَل
فَغَدَا عليكَ مُهَلْهَلاً يَخْفَى عَلَى ... رَاحِ التِّجارِ وليسَ بالمُسْتَرْسِلِ
عِدْلُ الهَوَاءِ إذا صَفَتْ أقْطَارهُ ... وَأَرَقَّهُ نَسْجُ الخَرِيفِ المُقْبِلِ
أوْ مِثْلُ نَسْجِ الشَّمْسِ تَحْسِرُ دُونَهُ ... وتَكِلُّ عَيْنُ النَّاظِرِ المُتَأَمِّلِ
فَكأَنَّهُ عَرَضٌ يَقُومُ بِنَفْسِهِ ... مِنْ غَيْرِ مَا جِسْمٍ لَهُ مُتَقَبِّل
ولا أعرف شيئاً قبل هذا في وصف ثوبٍ ولا غزلٍ إلا ما حدثني به محمد بن يزيد النحوي قال: أنشدني عمرو بن حفص المنقري لأبي حنش النميري في رجلٍ ولي الإمارة بعد أن كان حائكاً:
للهِ سَيْفُكَ ما أَكَلَّ وُقُوعَهُ ... أَيامَ أنتَ بضرْبِه لا تَقْتُلُ
إلاَّ خُيُوطاً أُبْرِمَتْ طَاقَاتُها ... تُثْنَى بأَطْرافِ البنَانِ وَتُفْتَلُ
بِيضاً تُباهِي العَنكبوتَ بِنَسْجِهَا ... كالَّرقِّ رَقَّقَ غَزْلُهنَّ المِغْزَلُ
ما زلتَ تضْربُ في الغُزُولِ بِحَدِّهِ ... حتَّى حَدِبْتَ وَزَالَ مِنكَ المَفْصِلُ
أيامَ قِدْرُكَ لاَ تَزَالُ نَضِيجَةً ... مِنْ أَرْدَاهَاجٍ ليسَ فيه فُلْفُلُ
حدثني محمد بن موسى قال: كان أبو تمام يعشق غلاماً خزرياً كان للحسن بن وهبٍ، وكان الحسن يتعشق غلاماً كان لأبي تمام رومياً، فرآه أبو تمام يوماً يعبث بغلامه فقال: والله لئن أعنقت إلى الروم لنركضن إلى الخزر. فقال ابن وهب: لو شئت لحكمتنا واحتكمت، فقال له أبو تمام: أنا أشبهك بداود وأشبهني بخصمه. فقال الحسن: لو كان هذا منظوماً خفناه، فأما منثوراً فهو عارضٌ لا حقيقة له، فقال أبو تمام:
أبا عَليٍ لِصَرْفِ الدَّهْرِ والغِيَرِ ... وللحوادِثِ والأيامِ والعِبَرِ
أذْكَرْتَني أَمْرَ دَاودٍ وكُنْتُ فَتىً ... مُصَرَّفَ القَلْبِ في الأَهْوَاءِ والذِّكَرِ
أَعِنْدَكَ الشَّمسُ لم يَحْظَ المَغِيبُ بها ... وأنتَ مُضْطَرِبُ الأحْشاءِ بالقَمرِ
إِنْ أنتَ لمْ تَتْرُكِ السَّيْرَ الَحثِيثَ إلىجَآذِرِ الرُّومِ أَعْنَقْنَا إلى الخَزَرِ
إنّ القَطْوبَ لَهُ مِنِّي مَقَرُّ هوىً ... يَحْلُّ مِنِّي مَحَلَّ السَّمعِ والبصَرِ
وَرُبَّ أَمْنَعَ منه صاحباً وَحِمىً ... امْسَى وتِكَّتُه مِنِّي على خَطَرِ
جَرَّدْتُ فيهِ جِنُودَ العَزْمِ وانْكَشَفَتْ ... عنهُ غَيابتُها عَنْ نَيْكَةٍ هَدَرِ
سبحانَ مَنْ سَبَّحَتْهُ كلُّ جَارِحةٍ ... ما فيكَ مِنْ طَمَحَانِ الأيْرِ وَالنَّظَرِ