قال: فلم تزل هذه الدار صدقة قائمة، بها ولده يسكنونها ويؤاجرون عليها، حتى كان زمن أبي جعفر المنصور، قال يحيى بن عمران بن عثمان بن الأرقم: إني لأعلم اليوم الذي وقعت في نفس أبي جعفر، وذاك أنه كان يسعى بين الصفا والمروة في حجة حجها، ونحن على ظهر الدار في فسطاط، فيمر تحتنا، ولو أشاء أن آخذ قلنسوة عليها لأخذتها، وإنه لينظر إلينا من حين يهبط بطن الوادي حتى يصعد إلى الصفا، فلما خرج محمد بن عبد الله بن حسن - رضي الله عنه - بالمدينة، كان عبد الله بن ع ثمان بن الأرقم ممن بايعه، ولم يخرج معه، فتعلق عليه أبو جعفر بذلك، فكتب إلى عامله بالمدينة أن يحبسه ويطرحه في حديد، ثم بعث رجلاً من أجل الكوفة يقال له: شهاب بن عبد رب، وكتب معه إلى عامله بالمدينة أن يفعل ما يأمره به، فدخل شهاب على عبد الله بن عثمان بن الأرقم الحبس، وهو شيخ كبير بن بضع وثمانين سنة وقد ضجر بالحديد والحبس، فقال له: هل لك أن أخلصك مما أنت فيه وتبيعني دار الأرقم، فإن أمير المؤمنين يريدها، وعسى إن بعته إياها أن أكلمه فيك، فيعفو عنك؟ قال: فإنها صدقة، ولكن حقي منها له، ومعي فيها شركاء، إخوتي وغيرهم، فقال: إنما عليك نفسك، فأعطنا حقك، وبرئت، فأشهد له، وكتب عليه كتاب شرى على سبعة عشر ألف دينار، ثم تتبع إخوته، ففتنهم بكثرة المال، فباعوه، فصارت لأبي جعفر ولمن أقطعها، ثم صيرها المهدي للخيزران أم موسى وهارون، فعرفت بها، ثم لجعفر بن موسى الهادي، ثم اشترى عامتها وأكثرها غسان بن عبادة، من ولد جعفر بن موسى.
وقال أبو العلاء [أحمد بن عبد الله [بن سليمان [المعري] :
فيا برق ليس الكرخ داري وإنما ... رماني إليه لدهر منذ ليال
فهل فيك من ماء المعرة قطرة ... تروي بها ظمآن ليس بسال
فليت سنيراً بان منه لصحبتي ... بروقى غزال مثل قرن غزال
وقال أيضاً:
متى ينزل الحي الكلابي بالساً ... يحييك عنا ظاعنون وقفال
تحية ود ما الفرات وماؤه ... بأعذب منها وهو أزرق سلسال
فيا دارها بالحزن إن مزارها ... قريب، ولكن دون ذلك أهوال
وقال أحمد بن أبي خيثمة:
ولكن قرب الدار ممن تحبه ... على البعد من قلب الحبيب شديد
وليس تنائي الدار للصب ضائراً ... إذا لم يكن بين القلوب بعيد
وقال أبو حكيمة راشد بن إسحاق:
ومستوحش لم يمس في دار غربة ولكنه ممن يحب غريب
طواه الهوى واستشعر الهجر إلفه ... وشطت نواه والمزار قريب
وقال آخر:
هذا هو الصبر، لا الصبر الذي سلفا ... لما دنت دار من يهوى ومن ألفا
قد كان في البعد إذهال لذي كلف ... لكن في القرب ما أغرى به الكلفا
وقال سعيد بن حميد:
إذا نائل شطت بها الدار مرة ... فلست على شيء من الدهر أشفق
ولم يبق مني حبها غير مهجة ... تذوب، وقلب خشية الهجر يخفق
وقال أبو الفتح الحسن بن عبد الله بن عبد الجبار بن أبي حصينة السلمي:
لون داراً أخبرت عن ناسها ... لسألت رامة عن ظباء كناسها
بل كيف تسأل دمنة ما عندها ... علم بوحشتها ولا إيناسها
ممحوة العرصات يشغلها البلى ... عن ساحبات الريط فوق دهاسها
بيض إذا انصاع النسيم من الصبا ... خلناه ما ينصاع من أنفاسها
يا صاحبي سقى منازل جلق ... غيث يروى ممحلات طساسها
فرواق جامعها فباب بريدها ... فمسارب القنوات من باناسها
فلقد قطعت بها زماناً للصبى ... واللهو مخضر كخضرة آسها
من لي برد شبيبة قضيتها ... فيها وفي حمص وفي ميماسها
وزمان لهو بالمعرة مونق ... بسياثها، وبجانبي هرماسها
أيام قلت لذي المودة: سقني ... من خندريس حناكها أوحاسها
حمراء تغنينا بساطع نورها ... في الليلة الظلماء عن نبراسها
رقت فما أدرى أكأس زجاجها ... في جسمها أم جسمها في كاسها
كان هذا الشاعر ابن أبي حصينة مداحاً للأمير تاج الأمراء معز الدولة أبي العلوان شمال بن أد الدولة صالح بن مرداس، فامتدحه بقصيدة شكا فيها كثرة أولاده، وكان له أربعة عشر ولداً، أولها:
سرى طيف هند والمطي بنا يسري ... فأخفى دجى ليل، وأبدى سنا فجر
يقول فيها: