وممن اتصف بالعفاف من ذوي الغرام الإمام ابن الإمام محمد بن داود الظاهري وله في ذلك حكايات مشهورة وهذا موضع إيرادها ونشر أبرادها فمن ذلك قوله لكل شيء زكاة وزكاة الوجه الحسن إمكان أهل العفة من النظر إليه. وحكى محبوبه محمد وقيل اسمه وهب بن جامع الصيدلاني أنه دخل على أمير المؤمنين فسأله عن ابن داود هل رأيت منه ما تكره فقال لا يا أمير المؤمنين إلا إني بت عنده ليلة فكان يكشف عن وجهي ثم يقول اللهم أنت تعلم أني أحبه وإني أراقبك فيه قال فما بلغ من رعايتك له فقلك دخلت الحمام فلما خرجت نظرت في المرآة فاستحسنت صورتي فوق ما عهدت فغطيت وجهي وآليت أن لا ينظر أحد إلى وجهي قبله وبادرت إليه فلما رآني مغطى الوجه خاف أن يكون لحقني آفة فقال ما الخبر فقلت رأيت الساعة وجهي في المرآة فأحببت أن لا يراه أحد قبلك فغشى عليه قال الليث بن سكرة كان محمد بن واسع يتفق على محمد بن داود وما عرف فيما مضى من الزمان معشوق ينفق على عاشقه ويتقرب إلى قلبه بأنواع البر إلا هذا مع ما هو فيه من الصيانة وحسن الديانة فالحمد لله الذي رأينا في زماننا من يتخلق بأخلاق الناس ولهذا العاشق مع هذا المعشوق حكاية غريبة أضربت عنها خوف الإطالة وكان محمد بن داود قد وضع كتاب الزهرة لأجل محبوبه محمد بن جامع المذكور وهو مجموع أدب أتى فيه بكل غريبة ونادرة وشعر أنيق وقال في أوله وكيف تنكرت من تغير الزمان وأنت أحد مغيريه ومن جفاء الإخوان وأنت المقدم فيه ومن عجيب ما تأتي به الأيام ظالم يتظلم وغابن يتندم ومطاع يستظهر وغالب يستنصر ومن كلامه ما انفككت من هوى منذ دخلت الكتاب وبدأت في كتاب الزهرة وأنا في الكتاب ونظر أبي في أكثره.
ومن ألطف ما حكى عنه أنه التقى هو وأبو العباس بن سريج في مجلس أبي الحسن بن عيسى الوزير فتناظرا في مسئلة من الإيلاء فقال له ابن سريج أنت بقولك من كثرت لحظاته جامت حسراته أحذق من أن تتكلم في الفقه فقال له محمد بن داود إن قلت ذلك فإني أقول:
أنزه في روض المحاسن مقلتي ... وأمنع نفسي أن تنال محرما
وأحمل من ثقل الهوى ما لو أنه ... يصعب على الصخر الأصم تهدما
وينطق طرفي عن مترجم خاطري ... فلولا اختلاسي رده لتكلما
رأيت الهوى دعوى من الناس كلهم ... فلست أرى حباً صحيحاً مسلما
فقال له ابن سريج فيم تفتخر علي ولو شئت لقلت:
ومساهر بالغنج من لحظاته ... قد بت أمنعه لذيذ سناته
شفقاً بحسن حديثه وعتابه ... وأكرر اللحظات في وجناته
حتى إذا الصبح لاح عموده ... ولي بخاتم ربه وبراته
فقال محمد احفظ عليه أيها الوزير ما أقر به من الاجتماع حتى يقيم البينة بشاهدي عدل على البراءة فقال له ابن سريج يلزمني في هذا ما يلزمك في قولك:
أنزه في روض المحاسن مقلتي ... وأمنع نفسي أن تنال محرما
قال فضحك الوزير وقال لقد جمعتما علماً وفهماً وظرفاً ولطفاً ومن لطيف ما يحكى عن محمد أيضاً ما حكاه أبو القاسم الصائغ قال: قال لي محمد بن داود ما دخلت جامع المدينة مما يلي باب خراسان منذ عشرين سنة قلت ولم قال لأني دخلت ذات يوم فرأيت غلامين من أحسن الناس وجهاً يتعاتبان فلما رأيان تفرقا فآليت أن لا أدخل من باب كنت فيه السبب في الفرقة بين المتحابين ودخل عليه ثعلب فقال له أسمعنا شيئاً من صبوتك فأنشد:
سقى الله أياماً لنا ولياليا ... لهن بأكناف الشباب ملاعب
إذا العيش غض والزمان بغرة ... وشاهد آفات المحبين غائب
ومن شعره:
لكل امرئ ضيف يسر به بقربه ... ومالي سوى الأحزان والهم من ضيف
يقول خليلي كيف صبرك بعدنا ... فقلت وهل صبر فيسئل عن كيف