أما الْفِكر فى ذَات الْخَالِق فَهُوَ طلب للأكتناه من جِهَة وَهُوَ مُمْتَنع على الْعقل الْبُشْرَى لما علمت من انْقِطَاع النِّسْبَة بَين الوجودين ولاستحالة التركب فى ذَاته وتطاول إِلَى مَالا تبلغه الْقُوَّة البشرية من جِهَة أُخْرَى فَهُوَ عَبث ومهلكه عَبث لِأَنَّهُ سعى إِلَى مَالا يدْرك ومهلكة لِأَنَّهُ يُؤدى إِلَى الْخبط فى الِاعْتِقَاد لِأَنَّهُ تَحْدِيد لما لَا يجوز تحديده وَحصر لما لَا يَصح حصره
لَا ريب أَن هَذَا الحَدِيث وَمَا أَتَيْنَا عَلَيْهِ من الْبَيَان كَمَا يأتى فى الذَّات من حَيْثُ هى يأتى فِيهَا مَعَ صفاتها فالنهى واستحالة الْوُصُول إِلَى الاكتناه شاملان لَهَا فيكفينا من الْعلم بهَا أَن نعلم أَنه متصف بهَا أما مَا وَرَاء ذَلِك فَهُوَ مِمَّا يستأثر هُوَ بِعِلْمِهِ وَلَا يُمكن لعقولنا أَن تصل إِلَيْهِ وَلِهَذَا لم يَأْتِ الْكتاب الْعَزِيز وَمَا سبقه من الْكتب إِلَّا بتوجيه النّظر إِلَى الْمَصْنُوع لينفذ مِنْهُ إِلَى معرفَة وجود الصَّانِع وَصِفَاته الكمالية أما كَيْفيَّة الاتصاف فَلَيْسَ من شَأْننَا أَن نبحث فِيهِ
فالذى يُوجِبهُ علينا الْإِيمَان هُوَ ان نعلم أَنه مَوْجُود لَا يشبه الكائنات أزلى أبدى حى عَالم مُرِيد قَادر متفرد فى وجوب وجوده وفى كَمَال صِفَاته وفى صنع خلقه وَأَنه مُتَكَلم سميع بَصِير وَمَا يتبع ذَلِك من الصِّفَات الَّتِى جَاءَ الشَّرْع بِإِطْلَاق أسمائها عَلَيْهِ أما كَون الصِّفَات زَائِدَة على الذَّات وَكَون الْكَلَام صفة غير مَا اشْتَمَل عَلَيْهِ الْعلم من معانى الْكتب السماوية وَكَون السّمع وَالْبَصَر غير الْعلم بالمسموعات والمبصرات وَنَحْو ذَلِك من الشئون الَّتِى اخْتلف عَلَيْهَا النظار وَتَفَرَّقَتْ فِيهَا الْمذَاهب فمما لَا يجوز الْخَوْض فِيهِ إِذْ لَا يُمكن لعقول الْبشر أَن تصل إِلَيْهِ وَالِاسْتِدْلَال على شىء مِنْهُ بالألفاظ الْوَارِدَة ضعف فى الْعقل وتغرير بِالشَّرْعِ لِأَن اسْتِعْمَال اللُّغَة لَا ينْحَصر فى الْحَقِيقَة وَلَئِن انحصر فِيهَا فَوضع اللُّغَة لَا تراعى فِيهِ الوجودات بكنهها الحقيقى وَإِنَّمَا تِلْكَ مَذَاهِب فلسفة إِن لم يصل فِيهَا أمثلهم فَلم يهتد فِيهَا فريق إِلَى مقنع فَمَا علينا إلاالوقوف عِنْدَمَا تبلغه عقولنا وَأَن نسْأَل الله أَن يغْفر لمن آمن بِهِ وَبِمَا جَاءَ بِهِ رسله مِمَّن تقدمنا