للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

والمؤمن بالقدر، يعلم أن رزقه مكتوب، وأنه لن يموت حتى يستوفي رزقه، ويدرك أن الله كافيه وحسبه ورازقه، وأن العباد مهما حاولوا إيصال الرزق له، أو منعه عنه فلن يستطيعوا إلا بشيء قد كتبه الله، فينبعث بذلك إلى القناعة وعزة النفس، والإجمال في الطلب، وترك التكالب على الدنيا، والتحرر من رق المخلوقين، وقطع الطمع مما في أيديهم، والتوجه بالقلب إلى رب العالمين، وهذا أس فلاحه ورأس نجاحه، ومن جميل ما يذكر في هذا المعنى ما ينسب لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه قوله:

أفادتني القناعة كل عز وهل عِزٌ أعز من القناعة

فصيرها لنفسك رأس مال وصير بعدها التقوى بضاعة

تحز ربحا وتغنى عن بخيل وتنعم في الجنان بصبر ساعة (١)

ومن ذلك قول الشافعي رحمه الله تعالى:

رأيت القناعة كنز الغنى فصرت بأذيالها متمسك

فلا ذا يراني على بابه ولا ذا يراني به منهمك

وصرت غنياً بلا درهم أمر على الناس شبه الملك (٢)

٤٥ - من ثمرات الإيمان بالقدر: عدم الاعتماد على الكهان، والمنجمين، والمشعوذين، والتمسح بأتربة القبور، ودعاء غير الله، وصرف شيء من أنواع العبادة لغير الله، لأنها لا تملك لنفسها نفعا ولا ضرا فضلاً عن غيرها.

٤٦ - من ثمرات الإيمان بالقدر: تفريغ القلب من الشواغل:

فإن الإيمان بالقدر على الوجه الصحيح (يريحه من الأفكار المتعبة في أنواع الاختيارات ويفرغ قلبه من التقديرات والتدبيرات التي يصعد منها في عقبة وينزل في أخرى، ومع هذا فلا خروج له عما قدر عليه، فلو رضي باختيار الله أصابه القدر وهو محمود مشكور ملطوف به فيه، وإلا جرى عليه القدر وهو مذموم غير ملطوف به فيه، لأنه مع اختياره لنفسه.

ومتى صح تفويضه ورضاه، اكتنفه في المقدور العطف عليه، واللطف به، فيصير بين عطفه ولطفه، فعطفه يقيه ما يحذره، ولطفه يهون عليه ما قدره) (٣).

فطريق المؤمن أن ينهض بالتكاليف الواضحة - ما استطاع - وأن يجتنب النواهي المحددة كما نهي. وأن يشتغل بمعرفة ما أمر الله به، وما نهى الله عنه، ولا يبحث في شيء وراءهما من أمر الغيب المحجوب عن إدراكه المحدود.

وما كان الله سبحانه ليكلفه شيئاً يعلم أن لا طاقة له به، أو أنه ممنوع بمانع قهري عن النهوض به. وما كان الله سبحانه لينهاه عن شئ، يعلم أن لا طاقة له بالامتناع عنه، أو أنه مدفوع بدافع قهري لا يقاوم لإتيانه! قال تعالى: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} [البقرة: ٢٨٦].

٤٧ - من ثمرات الإيمان بالقدر: سكون القلب، وطمأنينة النفس، وراحة البال:

هذه الأمور من ثمرات الإيمان بالقضاء والقدر، وهي مطلب ملح، وهدف منشود، فكل من على وجه البسيطة يبتغيها ويبحث عنها، ولكن كما قيل:

كل من في الوجود يطلب صيدا غير أن الشباك مختلفات

فلا يدرك هذه الأمور، ولا يجد حلاوتها، ولا يعلم ثمرتها إلا من آمن بالله وبقضائه وقدره.

ذلك (لأنه متى علم أن ذلك بقضاء الله تعالى وأن المكروه كائن لا محالة ارتاحت النفس واطمأن القلب ورضي بقضاء الرب، فلا أحد أطيب عيشاً وأريح نفساً وأقوى طمأنينة ممن آمن بالقدر) (٤).

وإنك لتجد عند خواص المسلمين من العلماء العاملين، والعباد القانتين المتبعين، من سكون القلب، وطمأنينة النفس ما لا يخطر على بال، ولا يدور حول ما يشبهه خيال، فلهم في ذلك الشأن، القدح المعلى، والنصيب الأوفى.

فهذا أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز رحمه الله يقول: (أصبحت ومالي سرور إلا في مواضع القدر. قيل له: ما تشتهي؟ فقال: ما يقضي الله عز وجل) (٥).

وهذا شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى يقول: (إن في الدنيا جنة من لم يدخلها لم يدخل جنة الآخرة) (٦).

ويقول مقولته المشهورة التي قالها عندما اقتيد إلى السجن: (ما يصنع أعدائي بي، أنا جنتي وبستاني في صدري، أنى رحلت فهي معي لا تفارقني، أنا حبسي خلوة، وقتلي شهادة، وإخراجي من بلدي سياحة) (٧).

٤٩ - من ثمرات الإيمان بالقدر: طرد القلق والضجر عند فوات المراد أو حصول المكروه:

لأن ذلك بقضاء الله تعالى الذي له ملك السموات والأرض وهو كائن لا محالة فيصبر على ذلك ويحتسب الأجر (٨).


(١) ديوان الإمام علي ص ١٢١ - ١٢٢، نقلا من القضاء والقدر للحمد ص ٣٠.
(٢) ديوان الإمام الشافعي ص ٦٨. الطبعة الثالثة، مؤسسة الزعبي، بيروت، ١٣٩٢ هـ.
(٣) الفوائد ص ١٧٦.
(٤) ابن عثيمين، عقيدة أهل السنة والجماعة، ص ٤٦ - ٤٧.
(٥) مختصر منهج القاصدين ص ٣٣٧.
(٦) الشهادة الزكية في ثناء الأئمة على أبن تيمية لمرعي الكرمي الحنبلي ص ٣٤. نقلا من القضاء والقدر للحمد ص ٣١.
(٧) شيخ الإسلام أحمد تقي الدين أبن تيمية: جهاده، دعوته، عقيدته، للشيخ أحمد القطان ومحمد الزين ص ١٠١، الطبعة الأولى، مكتبة السندس، الكويت، ١٤٠٦ هـ.
(٨) عقيدة أهل السنة والجماعة، ابن عثيمين، ص ٤٧.

<<  <   >  >>