للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

ولقد استغلت العلمانية الانحراف في التصورات الإسلامية لدى الصوفية - ومنها الانحراف في مفهوم القدر والتوكل - كإحدى مظاهر الغزو الفكري لتقول للناس أن الدين لا علاقة له بالحياة ولا بالسلوك العملي، وإنما هو رابطة قلبية بين العبد وربه يستحق بها النجاة والفوز في العالم الأخروي.

وفي بيان انحراف الصوفية في القدر، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (وأما "الطائفة الثانية" -يعني من فرق الضلال الخائضون في القدر- فهم شر منهم - يعني القدرية - وهم طوائف من آهل السلوك والإرادة والتأله والتصوف والفقر ونحوهم، يشهدون هذه الحقيقة، ورأوا أن الله خالق المخلوقات كلها، فهو خالق أفعال العباد ومريد جميع الكائنات، ولم يميزوا بعد ذلك بين إيمان وكفر، ولا عرفان ولا نكر، ولا حق ولا باطل، ولا مهتدى ولا ضال، ولا راشد ولا غوي، ولا نبي ولا متنبئ ولا ولي لله ولا عدو، ولا مرضي ولا مسخوط ولا محبوب ولا ممقوت، ولا بين العدل والظلم، ولا بين البر والعقوق ولا بين أعمال الجنة وأعمال أهل النار، ولا بين الأبرار والفجار حيث شهدوا ما تجتمع فيه الكائنات من القضاء السابق والمشيئة النافذة والقدرة الشاملة والخلق العام، فشهدوا المشترك بين المخلوقات وعموا عن الفارق بينهما، وصاروا ممن يخاطب بقوله تعالى: {(٣٤) أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (٣٥) مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} [القلم: ٣٥ - ٣٦]) (١).

وقال أيضاً: (والفرقة الثانية: - يعني من فرق الضلال الخائضون في القدر- المشركية- الذين أقروا بالقضاء والقدر، وزعموا أن ذلك يوافق الأمر والنهي وأنكروا الأمر والنهي، قال تعالى: {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام: ١٤٨]، وقال تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ} [النحل: ٣٥].

فهؤلاء يؤول أمرهم إلى تعطيل الشرائع والأمر والنهي، مع الاعتراف بالربوبية العامة لكل مخلوق، وانه ما من دابة إلا ربي آخذ بناصيتها، وهو الذي يبتلى به كثيراً - إما اعتقاداً، وإما حالاً - طوائف من الصوفية والفقراء، حتى يخرج من يخرج منهم إلى الإباحة للمحرمات، وإسقاط الواجبات، ورفع العقوبات) (٢).


(١) مجموع الفتاوى (٨/ ٥٩ - ٦٠).
(٢) المرجع السابق (٣/ ١١١)، (٨/ ٢٥٦).

<<  <   >  >>