لقد كتب أحد المستشرقين الألمان وهو يؤرخ لحال المسلمين في عصوره الأخيرة يقول: طبيعة المسلم التسليم لإرادة الله والرضا بقضائه وقدره والخضوع بكل ما يملك للواحد القهار. وكان لهذه الطاعة أثران مختلفان ففي العصر الإسلامي الأول لعبت دوراً كبيراً في الحرب إذ حققت نصراً متواصلاً لأنها دفعت في الجندي روح الفداء، وفي العصور الأخيرة كانت سبباً في الجمود الذي خيم على العالم الإسلامي فقذف به إلى الانحدار وعزله وطواه عن تيارات الأحداث العالمية، إن هذا الرجل وهو كافر أدرك هذه الحقيقة: حقيقة الفرق بين الإيمان بالقدر كما فهمه السلف وبين الإيمان الذين ابتدعه الخلف متأثرين بالمتصوفة.
ولاشك أن ما أصاب المسلمين من ذل وهوان وهزائم معنوية وحسية كان بقدر الله الذي لا يقع في كونه إلا ما يريد ولا يخفى عليه شيء بل سيان في علمه ما كان وما سيكون، لكن المسلمين في العصور الأخيرة حرفوا هذا المفهوم فاتخذوا من الإيمان بالقدر مبرراً واهياً لعجزهم وانهيارهم متناسين أن أقدار الله إنما تجري عليهم وفق سننه الثابتة التي أوضحها لهم لكنهم غفلوا عنها وأهملوها، فالمسؤولية مسؤوليتهم وحدهم ولا يظلم ربك أحدا.
لقد انقلب التوكل الذي كان الباعث القوي لحركة الجهاد والانطلاق في الأرض بأسباب الحياة إلى تواكل رخيص مذموم سماه المتصوفة "يقيناً" وسماه الآخرون "قناعة" واحتسبه الكل عند الله.
واستسلم المسلمون لنوم طويل - محتجين بالقدر - فلم يوقظهم إلا هدير الحضارة الغربية وهي تدك معاقلهم وتقتحم حصونهم، وكانت المفاجأة المذهلة التي زعزعت إيمان الأمة بدينها، وهو الإيمان الذي كان خامدا بارداً لا حراك له، وفي لحظة الانبهار والإنذهال هذه، قال المستشرقون والمبشرون وأذنابهم: أن الدين - وعقيدة القدر خاصة - هو سبب التأخر والجمود في العالم الإسلامي، وصدقهم المغفلون الذين كانوا لا يعرفون من شعائر الدين إلا ما رسمه لهم مشايخ الطرق من صلوات وأوراد، ولا من قواعده إلا أن من الإيمان أن يرضى المرء بما كتب له - على المفهوم الخاطئ لها -، وباسم الزهد في الدنيا، والاستسلام الخانع للذل والفقر - تحت ستار الإيمان بالقدر-، وهما ما تطوعت به الطرق الصوفية وشجعته البيئة الجاهلة المنحطة- تقهقرت الحضارة الإسلامية وذبلت حتى لفظت أنفاسها على يد الغزو العسكري والحضاري القادم من الغرب.
(وأصبحت الصوفية جبرية مرجئة تربّت على أكتاف النائمين، فيستولي اليأس والقنوط على الحياة .. هذه النظرة السلبية كانت خير عون للمستعمر .. الذي غذى الصوفية وأنفق على مشاهدها وزواياها الكثير من أجل قتل الحيوية ونفسية الجهاد عند المسلمين)(١).