قد جعل الله لكل شيء سببا كما جعل لكي شيء قدرًا، فما يبصر مولود نور الحياة إلا بعد أسباب وأطوار، ولا يقع حدث في الوجود إلا إثر مقدمات وإرهاصات، ولا تتغير الأنفس والآفاق إلا عقب سلسلة من التمهيد والإعداد:"سنة الله في خلقه، ولن تجد لسنة الله تبديلا! ".
ولا شيء كالتاريخ يشهد بصدق هذه السنة وانطباقها على وقائع الحياة: فما يسع مؤرخا ثاقب النظر دقيق الاستنتاج أن يجهل أسباب الحوادث ودوافعها إن أراد الوصول إلى الحقائق التاريخية الثابتة من خلال الوثائق والنصوص.
لكن التاريخ لا ينفرد وحده بالحاجة إلى استنباط النتائج من خلال المقدمات، واستبطان الحقائق من مضمون الأسباب, بل العلوم الطبيعية والدراسات الاجتماعية والفنون الأدبية تشارك التاريخ كذلك في تطلعها إلى معرفة الأسباب والمسببات، واستشرافها إلى العلم بالمبادئ والغايات.
ولسنا بسبيل الموازنة بين ضروب المعرفة هذه لنكتشف مقدار احتياج كل منها إلى دراسة أسباب الأشياء، وإنما يعنينا منها التنبيه إلى أمسها صلة ببحثنا الديني، وأقربها شبها به ورحما: وهو الفن الأدبي الذي يعول فيه على النص الجميل متلوا مسموعا، أو مقروءا منظورا, فعلى صعيد هذا الفن الأدبي ما نكاد نفهم نصا ما فهما سديدا، أو نتذوقه تذوقا سليما، إلا إذا مهدنا بين يدي دراسته بإزاحة النقاب عن الظروف النفسية والاجتماعية التي دفعت الأديب إلى التفكير فيه، ثم حملته على اختيار ألفاظه وابتداع معانيه.