للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

من هذه الأسباب، وأنه كلما امتد بالناس الزمان ازداد جهلهم بها لبعدهم عن الينبوع الصافي النمير، لذلك كان علماء السلف الصالح يتشددون كثيرا في الروايات المتعلقة بأسباب النزول، وكان تشددهم يتناول أشخاص رواتها وأسانيدها ومتونها. فأما الأشخاص فما كان أشد ورعهم إذ يستفتون في أسباب النزول! هذا محمد بن سرين١ يقول: سألت عبيدة عن آية من القرآن فقال: "اتق الله وقل سدادًا، ذهب الذين يعلمون فيم أنزل القرآن"٢. ولكن هذا الورع لم يكن ليمنعهم من قبول أخبار الصحابة في مثل هذه الموضوعات، وحجتهم في هذا لا تقبل الجدل، فهم يرون "أن قول الصحابي فيما لا مجال للرأي والاجتهاد فيه، بل عمدته لنقل والسماع، محمول على سماعه من النبي صلى الله عليه وسلم، لأنه يبعد جدا أن يقول ذلك من تلقاء نفسه"٣. ولذلك قرر ابن الصلاح والحاكم وغيرهما في علوم الحديث أن الصحابي الذي شهد الوحي والتنزيل إذا أخبر عن آية أنها أنزلت في كذا فإنه حديث مسند، له حكم المرفوع٤.

وليس من الرواية الصحيحة في هذا المجال قول التابعي إلا إذا اعتضد بمرسل آخر رواه أحد أئمة التفسير الذين ثبت أخذهم عن الصحابة كعكرمة ومجاهد وسعيد بن جبير وعطاء والحسن البصري وسعيد بن المسيب والضحاك٥.


١ هو محمد بن سرين البصري، ويكنى أبا بكر. اشتهر بالحديث وتعبير الرؤيا، وكان إمام عصره في علوم الدين بالبصرة. توفي سنة ١١٠ "تهذيب التهذيب ٩/ ٢١٤".
٢ الإتقان ١/ ٥٢.
٣ منهج العرفان، لمحمد علي سلامة، ص٣٩. "انظر الإتقان ١/ ص٥٢".
٤ معرفة سبب النزول أمر يحصل للصحابة بقرائن تحتف بالقضايا، وربما لم يجزم بعضهم فقال: "أحسب هذه الآية نزلت في كذا" كما أخرجه الأئمة الستة عن عبد الله بن الزبير قال: خاصم الزبير رجلا من الأنصار في شراج الحرة, فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "اسق يا زبير, ثم أرسل الماء إلى جارك"، فقال الأنصاري: يا رسول الله أن كان ابن عمتك، فتلون وجهه، الحديث. قال الزبير: فما أحسب هذه الآيات إلا نزلت في ذلك: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} "الإتقان ١/ ٥٢". وانظر أيضا "الإتقان ١/ ٢٢٩". والشراج جمع شرج، وهو مسيل ماء من الحرة إلى السهل.
٥ الإتقان ١/ ٥٥٣.

<<  <   >  >>