للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

ترتيب القرآن أمثل ترتيب زمني وأصلحه وأدقه، والروايات في هذا المجال لم ترد إلا عن الصحابة الذين شاهدوا مكان الوحي وعرفوا زمانه، أو التابعين الذين سمعوا وصف ذلك وتفصيله من الصحابة. أما رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يرد عنه شيء من هذا القبيل، لأنه عليه الصلاة والسلام -كما يقول القاضي أبو بكر١ في "الانتصار": "لم يؤمر به، ولم يجعل الله علم ذلك من فرائض الأمة"٢.

ولا ريب أن كثيرا من الصحابة كانوا على علم كامل بالمكي والمدني به استطاعوا أن يستقصوا تلك الجزئيات الدقيقة التي حفلت بها كتب التفسير بالمأثور والمؤلفات الكثيرة في علوم القرآن، وقد أشرنا إلى جملة صالحة منها على سبيل التمثيل والاستشهاد، وفي وسعنا أن نكون فكرة عن غزارة علم الصحابة في هذه الموضوعات من خلال قول ابن مسعود: "والذي لا إله غيره ما نزلت آية من كتاب الله تعالى إلا وأنا أعلم فيمن نزلت وأين نزلت"٣ ولكن ابن مسعود -مهما نصف من سعة علمه- ليس الرجل الوحيد الذي أقسم هذا القسم منفردا به من بين سائر الصحابة، فقد أقسم نحوا من قسمه علي أيضًا، وقد كان بين الصحابة بلا ريب من أتيح له أن يشهد ما شهد هذان الصحابيان الجليلان، وربما رأى بعضهم أكثر مما رأياه، بل نحن لا نستبعد أن يكون بين مجاهيل الصحابة من يكمل برواية تحملها شيئا فات علماء الصحابة ومشاهيرهم٤.

لذلك لم يكن الاعتماد على الرواية الصحيحة متنافيا مع إعمال الفكر والاجتهاد، ولا سيما في الموضوعات التي لا تكون فيها الرواية نصا صريحا، ولهذا الاجتهاد صور وأشكال متنوعة في مبحث المكي والمدني فقد يقع الاختلاف في مكية بعض السور أو مدنيتها، وفي استثناء آيات مكية من سورة


١ هو القاضي أبو بكر بن الطيب الباقلاني.
٢ البرهان ١/ ١٩١ "وانظر الإتقان ١/ ١٤".
٣ الإتقان ١/ ١٤ والحديث أخرجه البخاري. وأخرج أبو نعيم في "الحلية" عن أيوب أنه قال: سأل رجل عكرمة عن آية من القرآن فقال: نزلت في سفح ذلك الجبل، وأشار إلى سلع.
٤ راجع ما ذكرناه في فصل "علم أسباب النزول" عن علم الصحابة بهذه القضايا.

<<  <   >  >>