للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

بيد أن القرآن -لدى مراعاته المعنى اللغوي الأصلي لمادة الإيحاء حين سمى وسيلته في الإعلام الخفي السريع "وحيا"- لم يقصر ظاهرة هذا الاتصال الغيبي الحفي بين الله وأصفايئه على تنزيل الكتب السماوية بواسطة ملك الوحين بل أشار في آية واحدة إلى صورة ثلاث من صور الوحي:

إحداها إلقاء المعنى في قلب النبي أو نفثه في روعه، والثانية تكليم النبي من وراء حجاب كما نادى الله موسى من وراء الشجرة وسمع نداءه؛ والثالثة هي التي متى أطلقت انصرفت إلى ما يفهمه المتدين عادة من لفظة "الإيحاء" حين يلقي ملك الوحي المرسل من الله إلى نبي من الأنبياء ما كلف إلقاءه إليه سواء أنزل عليه في صورة رجل أم في صورته الملكية؛ فبهذا نطقت الآية الكريمة: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ} ١.

كانت إذن لهذا الإعلام الخفي السريع المسمى "بالوحي" صورة خاصة تختلف في نظر القرآن عما قد يشبهها من مظاهر الخفاء والسرعة في ألفاظ الإعلام المستعملة قديما وحديثا. وقد يكون مؤسفا لنا -بعد أن استهوتنا الفكرة القرآنية التي تؤكد اتحاد مفهوم الوحي عند الأنبياء جميعا- أن نقع في قاموس الكتاب المقدس٢ على تفسير للوحي يختلف اختلافا جوهريا عن تفسيره الجامع الموحد، إذ الوحي في هذا القاموس "هو حلول روح الله في روح الكتاب الملهمين لإطلاعهم على الحقائق الروحية والأخبار الغيبية، من غير أن يفقد هؤلاء الكتاب الوحي شيئا من شخصياتهم، فلكل منهم نمطه في التأليف وأسلوبه في التعبير" وإنما أسفنا لاختلاف وجهتي النظر ههنا، لأن الوحي -بتعريفه القاموسي هذا- أضحى أبعد ما يكون عن الصعيد الديني المتصل بالله، الآخذ عن الله، وأقرب ما يكون إلى مدلول الكشف الذي


١ الشورى ٥١.
٢ هو القاموس الذي وضعه بالعربية الدكتور جورج بوست. وطبع في المطبعة الأمريكية ببيروت سنة ١٨٩٤.

<<  <   >  >>