للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

ولعل القصة الثالثة عن ذي القرنين تبدو -في الظاهر- أضعف صلة بشئون الغيب من قصتي أصحاب الكهف والعبد الصالح. فإنها لا تعدو أن تكون وصفا لرحلات ثلاث إلى الشرق والغرب والوسط قام بها رجل يسمى ذا القرنين. لكن الجو الغامض الذي أحيط بهذه الرحلات، وتراءى غموضه كالمقصود في القرآن، يلوح بالمعاني الغيبية من وراء ستار: فقد بلغ ذو القرنين هذا مغرب الشمس في رحلته الأولى، ومشرقها في رحلته الثانية، والمنطقة المتوسطة "بين السدين" في رحلته الثالثة.

وفي رحلته الغربية وجد الشمس تغرب في عين {حَمِئَةٍ} كثيرة الطين اللزج١، في موضع تكثر فيه المياه والأعشاب، وقد سكت القرآن عن تحديد تلك العين "الحمئة"، فألقانا الغموض المقصود في تجهيل شديد ربما كان يفوق سرية الأمور المسماة "بالغيبة".

وفي رحلته الشرقية وجد الشمس تطلع على قوم لا ستر لهم دونها، فربما أفاد هذا أن القوم كانوا عراة، وربما أشار إلى أن أرضهم مكشوفة تطلع الشمس عليهم فيها بلا ساتر، وليس في النص ما يقطع بأسماء القوم ولا باسم الأرض التي كانوا فيها ينزلون.

أما رحلته المتوسطة بين {السَّدَّيْنِ} فكل ما فيها يدعو إلى الرهبة الشديدة التي يفوق الشعور بها أحيانا شعور التهيب لدى مواجهة الغيب وأسراره: فالقرآن هنا يذكر موضعا بعينه يسميه {بَيْنَ السَّدَّيْنِ} مثلما يذكر قوما بأعيانهم يسميهم {يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ} ويصفهم بالإفساد في الأرض٢. وما نظن هذه


١ هذا التفسير إنما يصح على قراءة {حَمِئَةٍ} بالهمز، ولكن بعض قراء الأمصار قرءوا "حَامِيَة" بالياء أي: حارة، وأشار إمام المفسرين الطبري إلى صحة القراءتين، وعلل ذلك بقوله: "جائز أن تكون الشمس تغرب في عين حارة ذات حمأة وطين، فيكون القارئ في "عين حامية" ووصفها بصفتها التي هي لها، وهي الحرارة, ويكون القارئ في {عَيْنٍ حَمِئَةٍ} ووصفها بصفتها التي هي بها، وهي أنها ذات حمأة وطين". ثم يستعرض الطبري الأخبار الواردة بكلتا القراءتين. تفسير الطبري ١٦/ ١٠.
٢ ولذلك لا نرى حاجة للرجوع إلى كتب التفسير لتعيين المراد بهذه الألفاظ.

<<  <   >  >>