للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

ولاحظ أصحاب هذا الرأي -وهم في أوج حماستهم لفكرتهم هذه- أن تحدي القرآن للعرب أن يأتوا بمثله يزداد وضوحا، ويكتسب قوة، بظاهرة غريبة حقا نعجب لدراستهم لها والتفاتهم إليها. لم يكتف القرآن باشتماله على فواتح مختلفة يبلغ تعدادها تمام حروف الهجاء، ولا بتأليفه تلك الفواتح من نصف الحروف الهجائية, بل حوى فوق ذلك من كل جنس من الحروف نصفه، فمن حروف الحلق١، الحاء والعين والهاء، ومن المهموسة٢ السين والحاء والكاف والصاد والهاء، ومن المجهورة الهمزة والميم واللام والعين والراء والطاء والقاف والياء والنون، ومن الحرفين الشفهيين الميم، ومن القلقلة القاف والطاء.. إلخ٣، ثم إن هذه الحروف ذكرت تارة مفردة، وتارة حرفين حرفين، وطورا ثلاثة ثلاثة، وأحيانا أربعة وخمسة، لأن تراكيب الكلام على هذا النمط ولا زيادة على الخمسة.

وإذا كنا اليوم -بعقلية القرن العشرين- لا نرى في هذا الأمر أكثر من مصادفة فما كان ليخطر على بال السلف الصالح إلا أن الفواتح نظمت في القرآن على هذا النمط منذ الأزل, لتحتوي على كل ما من شأنه إعجاز البشر عن الإيتان بمثل هذا الكتاب العزيز ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا.

وإن الاعتقاد بأزلية هذه الأحرف قد أحاطها بجو من التورع عن تفسيرها والتخوف من إبداء رأي صريح فيها، فهي من المتشابه الذي لا يعلم تأويله إلى الله، وهي -كما قال الشعبي: "سر هذا القرآن٤". وفي هذا المعنى قول علي بن أبي طالب: "إن لكل كتاب صفوة وصفوة هذا الكتاب حروف التهجي" وقول أبي بكر الصديق: "في كل كتاب سر، وسره في القرآن أوائل السور"، ونقل أهل الأثر عن ابن مسعود والخلفاء الراشدين


١ أحرف الحلق ستة: الهمزة ولهاء والعين والحاء والغين والخاء.
٢ المهموسة عشرة يجمعها قولك: "فحثه شخص سكت" والباقية مجهورة.
٣ وقد أطال الزمخشري في بيان ذلك "الكشاف ١/ ١٧" وانظر البرهان ١/ ١٦٥-١٦٦.
٤ الإتقان ٢/ ١٣.

<<  <   >  >>