للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

{قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ} ١.

ولتصدير الآيات السابقة بعبارة "قل" مغزى لطيف يفهمه العربي بالسليقة، وهو توجيه الخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم، وتعليمه ما ينبغي أن يقول, فهو لا ينطق عن هواه، بل يتبع ما يوحى إليه. ولذلك تكررت عبارة "قل" أكثر من ثلاثمائة مرة في القرآن, ليكون القارئ على ذكر من أن محمدًا صلى الله عليه وسلم، لا دخل له في الوحي، فلا يصوغه بلفظه, ولا يلقيه بكلامه، وإنما يلقى إليه الخطاب إلقاء، فهو مخاطب لا متكلم, حاك ما يسمعه، لا معبر عن شي يجول في نفسه.

ويزداد الفرق وضوحا بين صفة الله المتكلم منزل الوحي وبين صفة رسوله المخاطب متلقي الوحي, في الآيات التي يعتب الله فيها على نبيه عتابا خفيفا أو شديدا، أو يعلمه فيها بعفوه عنه وغفرانه ما تقدم من ذنبه وما تأخر: فمن العتاب الخفيف الذي يشوبه عفو الله عن رسوله خطابه له في شأن من أذن لهم بالقعود عن القتال في غزوة تبوك: {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ} ٢. ومن المعلوم أن العفو لا يكون إلا عن ذنب، كما أن المغفرة لا تكون إلا بعد ذنب، وقد صرحت الآية بهذا في سورة الفتح: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا، لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} ٣. فمن العجيب -بعد هذا القول القرآني الصريح- أن يحاول بعض المفسرين -كالرازي- أن يثبتوا أن لفظ العفو لا يوحي بالذنب, وأن الذي عاتب الله به نبيه إنما كان ارتكابه خلاف الأولى، "وهو -كما يقول السيد رشيد رضا- جمود مع الاصطلاحات المحدثة والعرف الخاص في معنى الذنب وهو المعصية, وما كان ينبغي لهم أن يهربوا من إثبات ما أثبته


١ الأنعام ٥٠.
٢ التوبة ٤٣.
٣ الفتح ١-٢.

<<  <   >  >>