للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

ويحرص على أن يحيط علمه بما يريده هو منها، ويجتهد في إنزالها من نفسه في أفضل منازلها، ومن ذلك التنبيه لها قبل البدء بها لكيلا يفوته شيء منها.

وقد جعلت العرب منه هاء التنبيه وأداة الاستفتاح، فأي غرابة في أن يزيد عليها القرآن الذي بلغ حد الإعجاز في البلاغة وحسن البيان، ويجب أن يكون الإمام المقتدى، كما أنه هو الإمام في الإصلاح والهدى؟ ومنه ما يقع في أثناء الخطاب من رفع الصوت وتكييفه بما تقتضيه الحال من صحية التخويف والزجر، أو غنة الاسترحام والعطف، أو رنة النعي وإثارة الحزن، أو نغمة التشويق والشجو، أو هيعة الاستصراخ عند الفزع، أو صخب التهويش وقت الجدل. ومنه الاستعانة بالإشارات وتصوير المعاني بالحركات، ومنه كتابة بعض الكلمات أو الجمل بحروف كبيرة أو وضع خط فوقها أو تحتها..إلخ"١.

وإن انطباق هذه الحكمة على الواقع النفسي لمن كان القرآن موجها إليهم حين نزول الوحي، لا يزيدنا إلا استمساكا بهذا الرأي. ولأمر ما افتتحت جميع السور التي في أولها حروف مقطعة بذكر الكتاب أو معان تتعلق بالوحي والنبوة٢. ومن المعلوم أن هذه السور كلها مكية إلا البقرة وآل عمران. فأما المكية فلدعوة المشركين إلى إثبات النبوة والوحي، وأما الزهراوان المدنيتان فلمجادلة أهل الكتاب بالتي هي أحسن٣. وكانت تلك الفواتح كفيلة بتنبيه هؤلاء وأولئك إلى ما كان يلقى عليهم حتى لا يفوتهم شيء.

وما تنفك هذه الفواتح من عوامل الاستغراب، ولا يخلق الاستغراب إلا الاهتمام، ولا يثير الاهتمام إلا التنبيه، ولن ينبه الناس ويقرع أسماعهم صوت أحل وقعا من هذه الحروف المقطعة الأزلية التي همستها السماء في أذن الأرض!


١ تفسير المنار ٨/ ٢٩٩.
٢ وهذا ينطبق حتى على سور مريم, والعنكبوت، والروم، ون، لأنها -وإن لم تفتتح بذكر الكتاب- قد اشتملت على معان تتعلق بإثبات الوحي والنبوة. وانظر تفصيل ذلك في تفسير المنار ٨/ ٢٩٦-٢٩٨.
وقد نبه إلى ذلك الإمام الزركشي في "البرهان ١/ ١٧٠" فقال: "واعلم أن عادة القرآن العظيم في ذكر هذ الحروف أن يذكر بعدها ما يتعلق بالقرآن كقوله: {الم، ذَلِكَ الْكِتَابُ} [سورة البقرة: ١، ٢] , وقد جاء بخلاف ذلك في العنكبوت والروم، فيسأل عن ذلك".
٣ ويزداد هذا الرأي وضوحا إذا سلمنا بأن الزهراوين كانتا من أولائل السور نزولا في المدينة كما هو المشهور, وبنزولهما مفتتحتين بهذه الحروف المقطعة تمت الحكمة الإلهية من تنبيه اليهود إلى الدعوة الجدية وإثارة اهتمامهم بها، فلم يعد في استمرار الافتتاح بتلك الحروف بعد الزهراوين حكمة ظاهرة باهرة، ولذلك نزل لوحي بعدهما خاليا من تلك الفواتح، فلا ضرورة للتسليم بصحة الاعتراض الذي وجهه ابن كثير في تفسير "١/ ٣٧-٣٨" إلى هذا القول بسب مدنية البقرة وآل عمران وكونهما ليستا خطابا للمشركين: لأن الحكمة من تخصيص الزهراوين بهذه الفواتح تكون -على ما بيناه- بالغة دامغة.

<<  <   >  >>