للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

عَنِ الْهَوَى، إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} ، وقد مثلوا لذلك بنسخ الوضوء مما مست النار بأكله -صلى الله عليه وسلم- من الشاة ولم يتوضأ.

على أننا في هذه البحوث القرآنية لن نعرض إلا لنسخ القرآن بالقرآن، خشية أن نستطرد في إثارة بعض القضايا الأصولية التي تلقي على كتابنا طابعا خاصا جديرا بنا هنا أن نتحاشاه، وكنا نود لو سكتنا حتى عن الخلاف اللفظي في نسخ القرآن بالقرآن، لئلا نضطر إلى ذكر حجج الفريقين وتصوير وجهتي نظرهما في ردهما كلتيهما إلى إثبات حقيقة النسخ في كتاب الله، ولكننا لا نستطيع إغفال مثل هذا الأمر الذي كان له في التشريع الإسلامي وفي البحث القرآني أصداء عميقة، فلا مفر من الإشارة إلى رءوس المسائل في هذا النزاع.

لقد كان الجمهور -قبل أبي مسلم الأصفهاني-١ آخذا بلا تردد بجواز النسخ في كتاب الله، بل كان العلماء لا يتجشمون عناء كبيرًا للاستشهاد بكثير من الآيات المنسوخة وإن كان بعضهم غلا في ذلك غلوا شديدا, ولكن أبا مسلم حين جاء برأيه في النسخ لم يبطله جملة وتفصيلا، فإنه عالم محقق قرأ الآيات المصرحة بالنسخ، وإنما أبطل منه ضروبا ظنها تتعارض مع قوله تعالى: {لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} ٢، فآثر أن يسمي النسخ باسم التخصيص تجنبا لإبطال حكم قرآني أنزله الله.

ولكن العلماء تصدوا لأبي مسلم وأضرابه يفرقون لهم بين النسخ والتخصيص: فتعريف التخصيص هو "قصر العام على بعض أفراده"، وليس في هذا القصر رفع حقيقي للحكم عن بعض الأفراد، لأن تناوله بعض الأفراد فقط إنما يكون سبيله المجاز، فلفظ العام موضوع أصلا لكل الأفراد، ولم يقصر على بعضها إلا بقرينة التخصيص. أما النسخ فيظل النص المنسوخ


١ هو محمد بن بحر، المشهور بأبي مسلم الأصفهاني، معتزلي من كبار المفسرين، توفي سنة ٣٢٢هـ أهم كتبه "جامع التأويل" في التفسير.
٢ سورة فصلت ٤٢.

<<  <   >  >>