للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

فمن المبالغات أنهم قطعوا أوصال الآية الواحدة، فزعموا أن أولها منسوخ وآخرها ناسخ، كقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} ١ فإن آخر الآية يدعو إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهو بذلك ناسخ -في نظر ابن العربي- لأولها الذي صرح الله فيه بقوله: {عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ} ٢، بل زعم ابن العربي أيضا أن قوله: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} ٣ أوله وآخره منسوخان ووسطه محكم٤.

ومن المبالغات العجيبة إدراجهم في عداد المنسوخ ما أبطله القرآن من عادات الجاهلية وتقاليدها كتحريم نساء الآباء٥، وتشريع الدية٦ والقصاص٧ وحصر الطلاق في الثلاث٨، وما رفعه من شرائع من قبلنا كإباحة بعض المطعومات التي كانت محرمة عليهم، وقد رجح المحققون من العلماء إخراج هذا كله من عداد الناسخ، ووجهوه بأن ذلك لو عد فيه لعد جميع القرآن


١ سورة المائدة ١٠٥.
٢ أحكام القرآن "لابن العربي" ١/ ٢٠٥. وقارن بالإتقان ٢/ ٣٢. والناسخ والمنسوخ "لابن سلامة" ١٥٣.
٣ سورة الأعراف ١٩٩.
٤ أحكام القرآن أيضا ١/ ٣٨٨. وقارن بالناسخ والمنسوخ "لابن سلامة" ص١٧٠ ومن طريف ما ذكره ابن العربي من هذا القبيل أن قوله تعالى: {فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ} [سورة التوبة: الآية ٥] ناخسة لمائة وأربع عشرة آية، ثم صار آخرها ناسخا لأولها، وهو قوله: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} . انظر أحكام القرآن ٢٠١.
٥ كما في قوله تعالى: {وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ} من سورة النساء وقارن بالناسخ والمنسوخ "لابن سلامة" ١٢٥.
٦ كقوله تعالى: {فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} من سورة النساء أيضا.
٧ كقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى} من سورة البقرة، وقد صرح ابن سلامة في "الناسخ والمنسوخ" ص٤٩ بأن هذه الآية نسخت بعض عادات الجاهليين الذين كانوا لا يرضون أن يقتلوا بالعبد منهم إلا الحر، وبالمرأة منهم إلا الرجل، فسوى الله بينهما في أحكام القصاص.
٨ في قوله تعالى: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} ، فمن عجب أمر المفسرين أنهم جعلوا تحديد الطلاق في الثلاث نسخا لعمل الجاهلية التي لم تكن تقف في الطلاق عند عدد.

<<  <   >  >>