وإنما كان حرص الرافعي على الأصل اللغوي في الإعجاز، والتزامه له وعنايته به، لأنه كان آخذا نفسه بالكشف عن أسرار النظم الموسيقي في القرآن، هذا النظم الذي يشبه السحر والذي ألف العرب على تعاديهم، وكون منهم أمة واحدة تطرب للحن واحد تجتمع عليه قلوبها في الأرض بينما ترتفع به أرواحها في السماء.
وقد نحا سيد قطب في دراسته للقرآن منحى آخر، فلم تكن مفردات القرآن وحدها شاغلة له بموسيقاها، ولا تراكيب القرآن وحدها مستأثرة باهتمامه بتناسقها وترابطها، وإنما كان نظره مركزا في الأداة المفضلة للتعبير في كتاب الله، ولقد وجدها في التصوير وراح يتحدث عنها بأسلوب شعري يستهوي النفوس ويهديها بحق إلى جمال القرآن: "التصوير هو الأداة المفضلة في أسلوب القرآن: فهو يعبر بالصورة المحسة المتخيلة عن المعنى الذهني، والحالة النفسية، وعن الحادث المحسوس والمشهد المنظور، وعن النموذج الإنساني والطبيعة البشرية. ثم يرتقي بالصورة التي يرسمها فيمنحها الحياة الشاخصة، أو الحركة المتجددة. فإذا المعنى الذهني هيئة أو حركة، وإذا الحالة النفسية لوحة أو مشهد، وإذا النموذج الإنساني شاخص حي، وإذا الطبيعة مجسمة مرئية، فأما الحوادث والمشاهد، والقصص والمناظر، فيردها شاخصة حاضرة، فيها الحياة وفيها الحركة، فإذا أضاف إليها الحوار فقد استوت لها كل عناصر التخييل. فما يكاد يبدأ العرض حتى يحيل المستمعين نظارة، وحتى ينقلهم نقلا إلى مسرح الحوادث الأول الذي وقعت فيه أو ستقع، حيث تتوالى المناظر، وتتجدد الحركات، وينسى المستمع أن هذا كلام يتلى، ومثل يضرب، ويتخيل أنه منظر يعرض، وحادث يقع. فهذه شخوص تروح على المسرح وتغدو، وهذه سمات الانفعال بشتى الوجدانات، المنبعثة من الموقف، المتساوقة مع الأحداث، وهذه كلمات تتحرك بها الألسنة فتنم عن الأحاسيس المضمرة.