أما موضع الجمال الحقيقي في هذا المشهد -مشهد الحياة القصيرة التي يوشك أن تزول- فلم يتتبعه السيوطي في تنسيق الجمل العشر، والصور التي تطويها كل جملة منها في أوقات يتفاوت عرضها الخيالي طولا وقصرا، لأن هذا التفاوت في العرض الخيالي تبعا لمراحل المشهد المصور لم يكن جزءا من التشبيه المركب، فما على السيوطي إلا أن يذكر المعنى العام للآية, وقد وفق فيه وأجاد، وإن علينا نحن أن نشير إلى المراحل التي أبطأ فيها التصوير وتمهل، أو التي اندفع فيها وأسرع، حتى تم لهذا المشهد القرآني من الإعجاز بالألفاظ الجامدة ما لا يتم من الإبداع بالريشة والألوان.
لقد استخدمت في هذا المشهد الوسائل المقصرة لعرض مراحل النبات: فالفاء التعقيبية تطوي المشاهد بسرعة عظيمة: ما كاد الماء ينزل من السماء حتى اختلط به نبات الأرض مباشرة، وأصبح فجاءة في متناول الناس يأكلونه والأنعام تتمتع به، {إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ} ولكن أهل هذه الأرض المتمتعين بنباتها البهيج يمتد بهم الغرور، وليجون في اللهو كأنهم يعيشون أبدا، وكأنهم يقدرون على إخلاد الأرض وإخلاد أنفسهم فيها، غارقين في متعها، متقلبين في نعمائها، مسحورين بزخرفها، فاستخدمت "حتى" الدالة على امتداد الصور امتدادا يعرف أوله ويجهل منتهاه، وتتابعت أوصاف الغرور الإنساني تترى، لكل وصف منها تعبير متمهل متبطئ, فأما الأرض فشخصت مرتين, وقامت بحركتين، إذا أخذت بنفسها زخرفها كما تفعل العروس في يوم جلوتها، وتطلبت الزينة تطلبا وسعت إليها سعيا فلم تزين ولكنها ازينت، وأما أهل الأرض فانتفخت أوداجهم زهوا واختيالا، وصعروا خدودهم عجبا وكبرا، وأيقنوا -وإن كان يقينهم ظنا وخيالا- أنهم في الأرض على كل شيء قادرون، ولكن الظن لا يغني من الحق شيئا، وهذه الآماد الطوال كلها ليست إلا ومضات خيالية تزول كما تزول الأطياف، ففي لحظة من ليل أو نهار يأتي تلك الأرض أمر الله فيطوي تلك الأخيلة