للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ} ١.

وإن القرآن ليدعك أحيانا ترسم في خيالك صورة ناطقة لا تقف عند الرمز الكنائي، بل تجاوزه إلى التعريض، وإذا كنت في الكناية تذكر اللفظ وتريد لازم معناه، فإنك في التعريض تذكر اللفظ وتلوح به إلى ما ليس من معناه، لا حقيقة ولا مجازا. مثال: {وَقَالُوا لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا} ٢، فلو أجرينا الكلام على ظاهره لكان إخبارا بازدياد حر جنهم، وكونه أشد من حر الدنيا وهو معلوم للمخاطبين بالقرآن، فلا معنى لذكره والتنبيه عليه، ولكن الغرض الحقيقي التعريض بهؤلاء المتخلفين عن القتال المعتذرين بشدة الحر بأنهم سيردون جنهم ويجدون حرها الذي لا يوصف.

هذا ما نفهمه من الآية، ولكن السبكي في كتابه "الإغريض في الفرق بين الكناية والتعريض"٣ يذهب في فهمها مذهبا آخر يقيمه على منهجه في التفرقة بين هذين الأسلوبين فهو يقول: "الكناية لفظ استعمل في معناه مرادا منه لازم المعنى، فهي بحسب استعمال اللفظ في المعنى حقيقة، والتجوز في إرادة إفادة ما لم يوضع له، وقد لا يراد بها المعنى بل يعبر بالملزوم عن اللازم وهي حنيئذ مجاز، ومن أمثلته: {قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا} : فإنه لم يقصد إفادة ذلك، لأنه معلوم، بل إفادة لازمه، وهو أنهم يردونها ويجدون حرها إن لم يجاهدوا، وأما التعريض فهو لفظ استعمل في معناه للتلويح بغيره نحو {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا} ٤ نسب الفعل إلى كبير الأصنام المتخذة آلهة، لما يعلمون إذا نظروا بعقولهم من عجز كبيرها عن ذلك الفعل، والإله لا


١ سورة الحجر ٢١.
٢ سورة التوبة ٨١.
٣ السبكي هو تقي الدين علي بن عبد الكافي المتوفى سنة ٧٥٦هـ وكتابه "الإغريض" ذكره في "كشف الظنون ١/ ١٣٠".
٤ سورة الأنبياء ٦٣.

<<  <   >  >>