للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

مقاطعها، أو موضوع واحد من موضوعاتها الجزئية، والتمس في أجزائه النغم والإيقاع، لكان في كل جزء منه نغمة، وفي كل حرف منه لحن من ألحان السماء!.

وعلى هذا الأساس من انفراد القرآن بحفاظه على تناسقه الإيقاعي -سواء أحللت على تعاقب سوره وحدة كاملة، أم اقتطعت بغير تعمد بعض أجزائه على حدة- على هذا الأساس يحلو لنا أن نقتطف من سور قرآنية متنوعة بعض مواقف الدعاء، ثم نقفو بآذاننا مواطن السحر في إيقاعها الجذاب.

والدعاء -بطبيعته- ضرب من النشيد الصاعد إلى الله، ولا يحلو وقعه في نفس الضارع المبتهل إلا أن تكون ألفاظه منتقاة، فلا غرو إذا بدا النبي الكريم صلى الله عليه وسلم في دعائه المأثور كالحريص على شيء من التقطيع المقصود, من سجع لطيف، أو طباق رشيق، أو رنة شافية. أما القرآن نفسه فلم ينطق على لسان النبيين والصديقين والصالحين إلا بأحلى الدعاء نغما، وأروعه سحر بيان! وإذا تذكرنا أن ابتهال الصالحين كثير في القرآن رغبا أو رهبا، طمعا أو خوفا، اسعجالا لخير أو دفعا لشر١، أدركنا سرا من أسرار التنغيم ينبعث من كل مقطع في كتاب الله.

ومن سحر القرآن أن النغم الصاعد فيه خلال الدعاء يثير بكل لفظة صورة، وينشئ في كل لحن مرتعا للخيال فسيحا: فنتصور مثلا -ونحن نرتل دعاء زكريا- شيخا جليلا مهيبا على كل لفظة ينطق بها مسحة من رهبة وشعاع من نور، ونتمثل هذا الشيخ الجليل -على وقاره- متأجج العاطفة، متهدج الصوت، طويل النفس، ما تبرح أصداء كلماته تتجاوب في أعماق قلوبنا شديدة التأثير. بل إن زكريا في دعائه ليحرك القلوب المتحجرة بتعبيره الصادق عن حزنه وأساه خوفا من انقطاع عقبه، وهو قائم يصلي في المحراب لا يني ينادي اسم "ربه" نداء خفيا، ويكرر اسم "ربه" بكرة وعشيا، ويقول في


١ قارن بإحياء علوم الدين "للغزالي" ١/ ٣٠١-٣٧٢. "كتاب الأذكار والدعوات".

<<  <   >  >>