وخدمت أغراضه وغاياته، وعبرت عن كلياته وجزئياته, وصورت آفاق فلسفته الروحية الأصيلة في الكون والحياة والإنسان، فقد رأينا أئمة الإسلام يبذلون في تأصيل أصولها ووضع قواعدها جهدا ضخما، ورأيناهم ينشئون من أجلها المدارس الفكرية، ويصنفون فيها الكتب العلمية, ويقيمون على أسسها المذاهب الفلسفية والفقهية والروحية.
وما من ريب في أن ما بسطناه من علوم القرآن -في غضون مباحثنا هذه- قد ملأ قلب القارئ، وراع خياله، وأثار انتباهه، حين عرضنا في "أسباب النزول" لما للآيات من قصة تعين على الفهم السديد وتلهم أرجح التأويل وأصح التفسير، وحين وصفنا مقاييس المفسرين المحققين في ترجيح الروايات المنبئة عن تلك الأسباب بمصطلحها الدقيق وتخريجها الذكي ونقدها الحصيف، وجمعها بين السبب التاريخي والسياق الأدبي في الآيات التي وضعت في السطور على حسب الحكمة ترتيبا وحفظت في الصدور على حسب الوقائع تنزيلا، وحين تحدثنا عن ألوان من التناسق الفني يعوض بها القرآن أسباب النزول إذا لم تعرف، أو يؤكد مدلولاتها "بالنماذج" الحية إذا عرفت ولم تحفظ، أو حفظت ولم تشتهر.
وفي المكي والمدني جابهنا المستشرقين -أول الأمر- بتعيين منطلق الدعوة الإسلامية بمكة، ليرى كل باحث صورة بدء الوحي جلية واضحة خالية من كل لبس أو غموض، فبهذا الوضوح في تفسير واقع السيرة النبوية يتيسر لكل من المؤرخ والمفسر والأديب أن يتقصى مراحل الوحي المتعاقبة في مكة ثم في المدينة.
وإذ كنا في المكي والمدني نواجه موضوعا وثيق الصلة بالتاريخ لم نتردد في تفضيل التقسيم الزمني على التقسيمات المكانية والموضوعية والشخصية، فما لبثنا أن رأينا -في ضوء هذا التقسيم التاريخي- ما نزل بمكة أو بالمدينة، ابتداء ووسطا وختاما, كأن نزوله يجري الآن تحت سمعنا وبصرنا!
رأينا الوحي ينزل في الليل والنهار، وفي الحر والبرد، وفي السفر