المرحلة المدنية الأولى: هي سورة الأنفال, واستنتجنا -من خلال هذه السورة- ما يسود السور المدنية من تفصيل الحقائق الشرعية في العبادات والمعاملات، والحلال والحرام، والأحوال الشخصية والقوانين الدولية. وشئون السياسة والاقتصاد، وأحوال السلم والحرب، ووقائع المعارك والغزوات، ومواطن التقييد والإطلاق، والتعميم والتخصيص، والناسخ والمنسوخ.
ولعل القارئ قد تنبه إلى إطالتنا في فصل المكي والمدني، وتناولنا كثيرا من جزئياته بالتفصيل, ونظنه عرف السر في هذا الإسهاب، فإن بعض المستشرقين ومن تأثر بمناهجهم من مفكرينا وقادة الرأي فينا لم يذروا في موطن من بذور الشك مثلما ذروا في بحث المكي والمدني: أثاروا الشبهات حول عمر النبي في بدء الوحي، وحول تغاير الأسلوب القرآني بين مكة والمدينة تبعا لشخصية النبي وظروفه الخاصة، وحول ترتيب ما نزل بمكة أو المدينة، وحول ما ألحق بالمدني من وحي مكة, أو ما ألحق بالمكي من وحي المدينة, وكادوا يرتبون لنا قرآننا على هواهم رغم جهلهم تاريخنا، وفساد تذوقهم نصوصنا الأدبية البليغة. لذلك كررنا على شبهاتهم جميعا ننقضها نقضا، ونردها إلى صدورهم سهاما قاتلات.
وفي الفصول المتتابعة بعد ذلك حاولنا أن نصل إلى الحكمة من افتتاح بعض السور بالحروف المقطعة, وأن نتعرف إلى مشاهير القراء ونوضح الفروق بين أنواع القراءات المتواترة والآحادية والشاذة، ونصف ما لأسانيد المحدثين من أثر في تسلسل القراءات، وأن نتقصى أصح ما روي من وجوه الناسخ والمنسوخ، ونتصدى للخالطين بين النسخ والتخصيص، وبين النسخ والبداء، وبين النسخ والإنساء، وبين نسخ الأحكام ونسخ الأخبار، مؤكدين أن الأصل في آيات القرآن كلها الإحكام لا النسخ إلا أن يقوم على النسخ دليل صريح. وحين عرضنا لعلم الرسم القرآني فرقنا بين التزام الرسم العثماني وبين القول بالتوقيف فيه. ولم نغل في تقديس هذا الرسم، ولم نصدق ما زعموه في بعضه من الدلالة على معنى خفي دقيق, بل انتصرنا لمذهب القائلين بكتابة القرآن